في فترة الستينيات من القرن العشرين، قدم الناقد الاجتماعي بول جودمان مثالًا لوصف الأخطاء التي حدثت في التعليم العالي الأمريكي.
كتب هذا المفكر يقول: «منذ آلاف السنين، كان هناك حكماء يعرفون أشياء كثيرة وكانوا حريصين على مشاركتها. جاء إليهم الشباب وسألوهم: «هل يمكن أن نتعلم على أيديكم؟» وقد فعلوا ذلك. ومع مرور الوقت، جاء المزيد من الطلاب للتعلم».
«وبعد التعلم، أصبح هناك العديد من الحكماء القادرين والراغبين في التدريس. نمت المؤسسة مع توافد المزيد من الطلبة، والمزيد من المعلمين، وازدياد المواد للتدريس. أصبح الأمر معقدًا للغاية لدرجة أن الحكماء استأجروا كتبة لتتبع من كان يدرس، وماذا كان يدرس، وأي طلاب كانوا مع أي معلمين.
المشكلة اليوم هي أن الكتبة هم من يديرون دفة الأمور وأصبحوا بالتالي هم الذين يقررون من سيتولى التدريس، وما الذي سيدرسه، ومن هو المؤهل للتعلم».
إن هذا الدرس المستفاد وثيق الصلة بفهم التطورات المثيرة للقلق التي تتكشف في حرم الجامعات الأمريكية. كان الهجوم الإسرائيلي على غزة، في أعقاب الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، سبباً في اندلاع ثورة الشباب في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الوقت الذي ساعدت فيه هذه المجموعات المنظمة في حشد المظاهرات العارمة المطالبة بوقف إطلاق النار وتكريس الحقوق الفلسطينية، كان اتساع نطاق تلك الجهود وعمقها أقرب إلى التحرك العفوي العارم.
وفي هذا الصدد، لم يكن الأمر مختلفًا عن حركات الاحتجاج العفوية السابقة التي ظهرت خلال العقد الماضي، ونذكر منها على وجه الخصوص مسيرة النساء، ومظاهرات «الترحيب بالمهاجرين» التي ملأت مطارات الولايات المتحدة الأمريكية ردًا على «حظر المسلمين»، و«مسيرة من أجل المهاجرين» التي قادها الطلاب، ومسيرة «حياتنا» بعد عمليات إطلاق النار الجماعية المتكررة، وحركة «حياة السود مهمة» التي اندلعت بعد مقتل جورج فلويد.
وكان للحركة المطالبة بوقف إطلاق النار والمؤيدة للفلسطينيين الكثير من القواسم المشتركة مع هذه الجهود السابقة. لقد انحرفت سياسات هذه الحركة نحو اليسار، وكان يقودها الشباب، كما أنها كانت متنوعة عرقيا ودينيا، علما بأن المركز الرئيسي لأنشطتها كان الحرم الجامعي.
لقد بدأت هذه الحملة بالمظاهرات والتدريس والوقفات الاحتجاجية. ولكن مع استمرار الحرب في فصل الربيع الماضي، أصبح العالم على دراية بعمليات القتل الجماعي والدمار الذي تسببت فيه إسرائيل – والدعم غير المشروط من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في مواجهة ضخامة الخسائر البشرية وتفاقم المعاناة المأساوية.
ومما يلاحظ أيضا درجة ومستوى استجابة الطلاب وتفاعلهم قد ازدادت أيضًا، وهو ما أدى إلى ظهور «حركة الحرم الجامعي»، التي انتشرت بسرعة واتسع نطاقها لتشمل مئات الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ المراحل الأولى، واجهت الاحتجاجات المناهضة للحرب في الحرم الجامعي عدد من الجهات الفاعلة المناهضة التي سعت إلى إسكات المعارضة أو تشويه سمعتها. كما اتهم عدد من المانحين وأمناء بعض جامعات النخبة المؤيدين لإسرائيل إدارات هذه الجامعات بعدم التحرك لقمع الاحتجاجات، وقرروا بالتالي سحب دعمهم المالي.
وفي حين أن معظم الاحتجاجات المبكرة كانت خاضعة للرقابة الذاتية، فقد كانت هناك حالات غالبًا ما انخرط فيها الطلاب على جانبي هذا الصراع المشحون عاطفيًا في سلوكيات مؤذية أو أعمال قد تصل إلى التهديد.
وفي مرحلة معينة دخلت مجموعة أخرى مناوئة إلى هذه المعركة. فقد قامت بعض المنظمات اليهودية البارزة المؤيدة لإسرائيل بشن حملة مبالغ فيها ادعت من خلالها أن حركات الاحتجاج بأكملها هي في جوهرها معادية للسامية وطالبت بإيقافها لحماية الطلاب اليهود الذين شعروا بالتهديد أو الإقصاء.
لقد قامت هذه المنظمات بنشر تقارير، ونفذت حملة إعلامية ضخمة، كما أدلت بشهاداتها أمام الكونجرس الأمريكي لعرض قضيتها من وجهة نظرها. وفي حين أن بعض الأمثلة التي استخدموها كانت حقيقية، فإن الجزء الأكبر من الأمثلة التي ذكروها لم تكن، بأي معيار معقول، معادية للسامية.
كانت تلك المساعي كافية لتوفير الزخم اللازم لظهور مجموعة ثالثة من الجهات المناوئة، وهي تتمثل في الأعضاء الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي. لقد وجد الحزب الجمهوري في هذا الزخم «العاصفة الكاملة» التي كان يبحث عنها.
فقد تم استدعاء رؤساء جامعات النخبة للإدلاء بشهاداتهم أمام لجان الكونجرس الأمريكي، حيث تمت مواجهتهم بأسئلة تنم عن رغبة مبيتة في الخداع والتضليل، حيث تم إعدادها أساسا من أجل إحداث الإثارة الإعلامية أكثر منها رغبة في توفير المعلومات.
لقد مورست ضغوط كبيرة على رؤساء تلك الجامعات الأمريكية البارزة أمام تلك اللجان المختلفة في جلسات عقدت في الكونجرس، وهو ما ولد لدى الكثير منهم بأنهم مجبرون على الاستقالة.
لقد ذهب الجمهوريون المنتشون بالنصر إلى أبعد من ذلك، حيث راحوا يشنون حملات من المضايقات والتهديدات المتعمدة، حيث هددوا بتعليق تمويل الكليات التي لم تتصرف كما يريد الحزب الجمهوري وطالبوا بفرض مزيد من الرقابة عليها، كما عمد هؤلاء الجمهوريون إلى تشويه الحركة الاحتجاجية واعتبروها معادية للسامية وتدعم «الأيديولوجية الإرهابية» أيضًا.
وسعيا لمواجهة هذه التحديات المتعددة المستويات والخوف من الضغوط التي يمارسها المانحون وتدخلات الكونجرس الأمريكي، كان رد فعل العديد من الجامعات هو دعوة الشرطة لفض الاحتجاجات، وغالبًا ما تم استخدام القوة المفرطة.
وفي غضون أسابيع قليلة، ألقت الشرطة القبض على أكثر من 3000 طالب في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، وقامت الجامعات بإيقاف العديد منهم ومنعت العديد من المجموعات الطلابية من العمل في الحرم الجامعي.
عندما عاد الطلبة وأعضاء هيئة التدريس إلى حرمهم الجامعي في شهر سبتمبر الحالي، اكتشفوا أن مديري الكليات كانوا يعملون خلال الفترة الصيفية على إعادة وضع سياسات تتعلق بكل من النشاط الاحتجاجي المسموح به والخطاب المقبول.
وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات من حرم جامعي إلى آخر عبر الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن اللوائح الجديدة كانت بها ما يكفي من القواسم المشتركة لدفع الباحثين إلى الكشف عن صناعة «المستشارين الأمنيين» الذين تم جلبهم لتقديم المشورة بشأن تغيير سياسات وممارسات الحرم الجامعي.
تفرض هذه الإجراءات الجديدة قيودًا على وقت ومكان ومدة الاحتجاجات، وتتطلب أن تحصل المجموعات الراعية على إذن للنشاط الاحتجاجي، وفي بعض الحالات، تتدخل حتى في محتوى اللافتات التي سيتم استخدامها.
لقد طُلب من بعض أعضاء هيئة التدريس تقديم مناهجهم الدراسية للمراجعة (ليس فقط من قبل الإداريين ولكن من خلال أعضاء الكونجرس الذين يطلبون ذلك). أما الإشكالية الأكثر إثارة للجدل فهي تتعلق بالتغييرات والتعديلات التي تم إجراؤها من دون إشراك أعضاء هيئة التدريس أو مجالس الطلاب في المدارس أو اللجان القضائية المشكلة من أعضاء هيئة التدريس والطلبة. وبدلا من التعامل مع المخالفات داخليا، فإنها تنطوي على إنفاذ سلطة الشرطة من الخارج.
وفي حين أعرب كثيرون عن قلقهم من أن هذه السياسات ترتقي إلى مستوى أساليب القمع والترهيب التي انتشرت على نطاق واسع في عهد مكارثي، فإن الأمر المثير للقلق بنفس القدر هو ما يعنيه كل هذا بالنسبة إلى مستقبل الجامعة نفسها.
وهنا تكمن أهمية ما يطرحه الناقد الاجتماعي بول جودمان، لأن ما لدينا هو موقف حيث قام الموظفون، مدفوعين بالخوف والضغط السياسي ونفوذ المانحين، بالتخطيط للاستيلاء على السلطة متجاوزين هياكل الحوكمة الراسخة وقاموا بإضفاء الطابع الأمني على الجامعات، وتقييد حرية التعبير الأكاديمية، بل والحرية الأكاديمية نفسها.
لقد تمت كل هذه الإجراءات وفرض كل هذه القيود من أجل إسكات الصحوة الجديدة الداعمة لحقوق الإنسان الفلسطيني.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك