زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
احترامي للحرامي*
أعطي نفسي حرية الخوض في أمور التعليم لأنني كنت طالب علم، ثم صرت معلما، ثم صرت صاحب عيال يطلبون العلم، ومن ثم فإنني أعرف بعض أشياء عن التربية والمناهج التعليمية، وبعض ما أعرفه يدعو إلى القلق حول مصائر الملايين من عيالنا.
إليكم اليوم حكاية شهدت وقائعها بلدة دسوق بمحافظة كفر الشيخ المصرية، قبل حين من الزمان، حيث ثم اعتقال أمين مخازن تتبع لمديرية التربية والتعليم بالمحافظة، توطئة لتقديمه للمحاكمة، والتهمة في غاية الغرابة، وتتمثل في أنه باع 90 ألف كتاب مدرسي، لأنه كان يمر بضائقة مالية، ولا أخفي تعاطفي مع الرجل، ليس لأن غيره يختلس 90 مليون جنيه او دولار و«بالكتير» يحال الى التقاعد في بيته كي يستفيد من تلك الملايين، ولا لأنني أحترم لصوص المال العام، ولكن لأن حرامي الكتب هذا باعها لجهات تستفيد منها فائدة قصوى، وهم باعة الطعمية (الفلافل) والفول والسندويتشات. وكما يعلم الجميع فإن الكتب المدرسية في مصر وغير مصر من بلدان من المحيط الى الخليج، لا تمثل غذاء للعقول بل تجعل من يقرأها من فصيلة العجول، وبالتالي فإنه من الخير للطلاب والشعب ان يتم الاستفادة منها في أمر يتصل بغذاء البطون.
من المظاهر التي ظلت تثير استيائي طوال سنوات عيشي في منطقة الخليج ما أراه حول المدارس عند نهاية كل عام دراسي: يتجمع الطلاب أمام مدخل المدرسة ويقيمون مجزرة للكتب، بمعنى أنهم يقومون بتقطيعها وأحيانا دهسها بالسيارات، وقيل لي إنهم يفعلون ذلك لأن وزارات التربية في المنطقة لا تجمع الكتب القديمة وتعطي طلاب كل سنة ودفعة كتبا جديدة من «الوكالة»، ومن ثم لا يجد الطلاب ما يمنعهم من تمزيق الكتب بنهاية السنة الدراسية. ولكنني أعتقد أن عمليات التقطيع تعبير عن انتقام من مناهج سخيفة ومملّة وعقيمة تم إرغام الطلاب على حشوها في رؤوسهم، وإذلالهم نحو ست مرات في السنة باختبارات غايتها تقصّي قدراتهم الببغاوية.
عندنا في السودان فرضت حكومة الرئيس المعزول عمر البشير على تلميذ المرحلة الابتدائية نحو 21 مادة، وهذا ضرب من «وأد» الطفولة، ففي بلاد الله التي تخرج أنظمتها التعليمية العباقرة والعلماء والمخترعين لا يدرس الإنسان منذ مرحلة الروضة حتى الجامعة 21 مادة. ومنذ أن كنا في المرحلة الثانوية حتى يومنا هذا، فإن طالب الشهادة الثانوية في السودان مطالب بحفظ معلقة من الشعر الجاهلي مع شرح كل كلمة وبيت فيها. لماذا كل شيء يتعلق بالجاهلية مرفوض، ولكن شعرها تعويذة تعلق في الرقاب، أو بالأحرى أنشوطة تلتف حول الرقاب وتخنقها؟ كان علينا حفظ معلقة لبيد بن ربيعة العامري، وأظن أنني شكوت أكثر من مائة مرة في مقالاتي من أن تلك المعلقة سببت لي إعاقة عقلية مازلت أعاني منها، وأحرزت تقدير ممتاز في الأدب العربي لأنني كنت أحفظ المعلقة وشروحها عن ظهر قلب، ولكنني لا أذكر منها اليوم سوى البيتين الأولين وأترك لك أيها القارئ ان تحكم بنفسك ما إذا كان هذان البيتان باللغة العربية أو الأوردو:
عفت الديار محلها فمقامها / بمنىً تأبد غولها فرجامها
ومدافع الريان عري رسمها / خلقا كما ضمن الوُحِي سِلامها
الكلمة الوحيدة التي أستطيع أن أجزم بأنها عربية هي «الديار»، ولا تعرض نفسك للسخرية بالقول إن «مدافع» عربية لأن المدافع التي «في بالك» لم تكن موجودة في زمن لبيد، لعدم وجود نتنياهو والمالكي وداعش، ولكنني أحفظ جانبا من معلقة زهير والكثير من شعر المتنبي والسياب وأمل دنقل وعبقري الشعر السوداني التيجاني يوسف البشير وغيرهم. بل أحفظ خطبة زياد بن أبيه (البتراء) بالكامل لأن لغتها الجميلة أسرتني فتسللت مفرداتها وجملها الى دماغي على الرحب والسعة.
فيا صاحبي الذي سرق الكتب في دسوق وباعها لجماعة الطعمية في السوق فعلت خيرا برغم أنك خنت الأمانة. وربما يدعو لك بالإفلات من العقوبة الطلاب الذين سيحرمون و«يُرحمون» من تلك الكتب.
* «احترامي للحرامي» قصيدة رائعة للشاعر السعودي عبدالرحمن بن مساعد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك