ضمن معزوفة رائعة، استطاع الشاعر المرحوم إسماعيل عبدعلي الذي فقدناه قبل أشهر ومن خلال إصداراته المتعددة التي انتهجها بأهازيج القرية ومواويل البحر والطبيعة الخلابة المتمثلة في بحرها وأشجارها وعروسه الشامخة «النخلة»، كان لإصداره الأخير «هوا الكوس» معناً حقيقياً وتجسيدياً لذلك التراث في أهازيجه الجميلة المتمثلة في عناق الماضي... من حيث نبراته الحسية في شعره وكلماته ومواويله الجميلة الرائعة.
كان لحرفية هذه الأشعار والكتب المميزة والمعنونة التي أصدرها صداً رائعاً في أغانيها، ودندنتها الخاصة لدى شاعرنا المرحوم من حيث استنتاجه وعناقه لتلك الطبيعة وفي مقدمتهم النخلة في روعتها وجمال قامتها، ومن غصة البحار ونهمات البحر الطويلة التي تجسد هموم الغواص وخطورة البحر وفرحة صيادي الأسماك عند سواحلها وهم يداعبون أمواجه، من أجل جلب الرزق ولقمة العيش.. كان لعطش النخيل ولهفتها وطول النهار المرهق مكانة لدى الشاعر في ترانيمه وحسه العاطفي المتوقد إبداعاً كما عرفناه طيلة حياته.
نعم كان لهذا الإصدار جمال روحي تمثل في ذلك المضمون المشبع بنكهة الماضي في بساطة العيش وقوة العزيمة وعفويتها، وجمال طبيعتها حيث البحر ومواويله وصداه البعيد... في صدق المعاني والمشاعر التي جسدها دون تكلف أو تصنع في بنائه الشعري للأغنية الشعبية الجميلة الإيقاع.
ومن خلال قراءتي لهذا الإصدار في تجسيده لتلك المعاني وتجانسه الجميل الرائع في صوره المتمثلة في ذلك البعد بمعالم واضحة ومعمارية فنية بارزة للبيت البحريني والصبغة التقليدية البحرينية في تراثها الجميل. كان للموال وهواجس البحر مكانة في طبيعة تلك الهمسات التي جاء بها ذلك «الكوس» لينثر عبيرها هنا وهناك، بين (دهاليز القرية وأزقتها الضيقة، من البيت العود والليوان، إلى ذلك الفيء في ظله وبرهته وشوقه للبقاء طويلا، وبين أشجار اللوز وأنهار المياه من عيون مياهها الصافية، كان لألم الشاعر ومعاناته همسة واضحة في الأسلوب والتعبير عما بداخل هذا الشاعر المشحون بحب الأشياء حوله والتعرف على أدق تفاصيل المشاعر المحلقة في فضاء الجمال.
وانطلاقاً من كل هذه الجماليات، نتوقف عند ألقها لنقرأ هذا الإصدار، بشكل موجز، لكي نكتشف مكامن وأبعاد الجمال المتواري خلف الغلاف.
«رغم الشقا»
في هذا الموال ومن خلال تركيبته التجانسية استطاع الشاعر المرحوم إسماعيل عبدعلي أن يجسد المعنى الحقيقي في المقطع الأول من الموال في قوله:
أنسى الكدر وأبتسم، تهنا بدون إشكال
وانظر بيعن الأمل، مهما لقيت إشكال
تلقى السعادة تجي، مثل الهموم أشكال
من هنا يبرز التصوير الجميل في بعده اللفظي والزمني حينما يهيم شاعرنا المرحوم ليجسد لنا المعنى الحقيقي في صداه الجميل، والذي يعني به نسيان ذلك الألم وذلك الكدر في وصفه وإشكالياته ومعاناته، حيث يبقى ذلك الأمل وبإصرار، في زمن ولحظات يصعب فيه النسيان، هنا دعوة لتصالح الأنسان مع ذاته، هكذا نفهم البعد الفلسفي في إبداع شاعرنا الراحل.
هادنيا مي أم أحد، كم واحد مرها
عيش بإرادة وعزم، تقوى على مرها
لا تكون مثل الذي، نفسه بكدر مرها
دنياك رغم الشقى، فيها السرور أشكال
ومن ثمّ يؤكد الشاعر إسماعيل عبدعلي في المقطع الثاني، بلحن جميل ورائع في وزنه وتجانسه لتلك الكلمات، ليقول لنا في وصفه الدنيا ورغم شقاوتها إلا أنها لا تخلو من الجمال في روعتها لمن يسافر فيها باحثا عن نور الأمل رغم الظلمة.
أيضا وفق في اختيار تلك المصطلحات الدقيقة التزامنية في تراثها. مثل الكدر والهموم والشقى، هذي المصطلحات تمثل فضاء واسعا جميلا في لونه التراثي الذي عاش من خلاله أجيال كانت ترد ألسنتهم في أيام التعب وأيام الغوص ومرارتها التي يتغنى بها النهام، وهي التحام صادق في البيئة المحلية وتعبير شفاف في المفردات، يقرأ البيئة البحرينية بصدق التناول والإحساس.
كما ينقلنا الشاعر إسماعيل عبدعلي إلى فضاء آخر، فضاء مُلِئ بالإثارة البعيدة في مفهومها التراثي والتجانسي حيث يقول في موال آخر:
موال: «لا اتهزك الريح»
دائم أراعيك، مره فأهالعمر راعني
من سبة، الصد حاير والجفا راعني
أترك حكي الناس، وبعين الفكر راعني
في مطلع هذا الموال واضح إنّ الشاعر أشار إلى مدى التآلف والود بين الناس بعضهم البعض، حيث أراد أن يوصل بعد ذلك العطاء الودي بينهم. كان يؤكد من خلال ذلك التجانس في معنى كلمة «راعني» ويعني بذلك العتاب الحميم للصديق، لهذا كان لذلك البعد معنى جميل وموفق في نفس الوقت، يعكس الصورة النفسية التي تسيطر على الشاعر، في رؤيته الحياتية التي كسبت عبر ودروس الحياة فتجلت بنور الحكمة في بوحها الشعري وأضاءت ما حولها بكل جميل.
هالناس ما يتركوا، واحد على حاله
كم مغرض في الهوى، راعي الوفا حاله
خلى نهاره دُجى، وظل حالته حاله
لا تهزك الريح، خالف من وشى وراعني
رغم تكرار المعنى في مفهومه الحياتي إلا أن الشاعر جعل من تلك المفاهيم خاصية في تركيبته اللفظية والتي جعلت من ذلك البعد التراثي صورة رائعة في نهماتٍ طويلةٍ وبعيدة في صداها، تأسر الإحساس عند الملتقى.
كان لذلك التأمل حرفية في المعنى واختيار للتجانس اللفظي من حيث أسقاطه النوعي لتلك اللغة التي تميز من خلالها ذلك العطاء في جانبه الأدبي الجميل، فنحن لا يمكن لنا أن نتعرف على الشاعر دونما قراءة رؤيته الفلسفية في مجمل ما يبدع وهذا هو حال الشاعر الراحل إسماعيل عبدعلي حينما هام بنا إلى عالم ذلك الفضاء الشعري العامي.
«هوى الكوس»
الموال الذي يتصدر عنوان وحنايا هذا الإصدار في معانيه الرقيقة والدقيقة في لفظها، حيث لجأ شاعرنا رحمة الله عليه في توضيح تلك الصورة بإشراقة جميلة ورائعة، في مداعبة تلك الكلمات لما تعنيه تلك الهواجس والمعاناة. هذا الموال والذي تتردد كلماته على مسامعنا بقولها:
بإشراقة الخير، يا صبح الفرح مرنا
وقطع عروق الشقى، خبرك وطر مرنا
خلنا نمس الهنا، ونتناسى كل مرنا
ما أروع أن يكون لمثل هذا التجانس بعد وهاجس جميل نتغنى به، مثل..
مرنا: ويعني بذلك تواصل معنا دائما لنكون عالما وحدا وجسدا واحدا.
مرنا: هنا تحمل نفس الكلمة بمعنى آخر والتي يعني بها شاعرنا المرحوم الزمن والأيام بمرارته ومعانيه، فمن تصفو له الأيام بلا تعبٍ أوشقاء أو أحزان.
مرنا: يؤكد الشاعر في تجانس هذه الكلمة في معناها بأن علينا أن نتخذ من الصبر ونعمة النسيات والعزيمة عنوانا لنا لنستطيع أن نتعايش مع الزمن، وهذا أجمل وأرع ما يعنيه الشاعر في ذلك البعد.
المقطع الثاني من الموال في قوله:
يـكفي يا ليل الكدر، من دفترك محنه
يا ما أتعبتنا المحن، محنه أثر محنه
يا ليل أحنا بشر، محنا بشر محنا
يكفي (هوى الكوس)، عكس المشتهى مرنا
تتزايد المحن في لونها ونوعها المر الذي عاشه ذلك الإنسان.
محنه ورى محنه... ألم ويتبعه ألم، وحرقة تلو الحرقة تثير شظايا ذلك الزمن في مباهاتها وعصفها الأليم. لتجعل من ذلك معاناة يتحدث عنها شاعرنا المرحوم إسماعيل عبدعلي بصدق القول والمعنى. في صداه البعيد الذي يحمل معه صوت البحر عندما تهاجر الطيور بعيدا. ها هو غادرنا وبقت تلك الأحاسيس والمشاعر تجاه إنسان عاش وقلبه ينبض بالحب وجمال العشرة والبساطة بين أهله وزملائه ومحبيه الذي التصق بهم طيلة حياته، سيبقى ذكره قائماً في ساحتنا الثقافية بمملكة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك