لّلَهِ نَهرٌ سالَ في بَطحاءِ أَشهى وُرودًا مِن لِمى الحَسناء
مُتَعَطِّفٌ مِثلَ السِوارِ كَأَنَّهُ وَالزَهرُ يَكنُفُهُ مَجَرُّ سَماءِ
قَد رَقَّ حَتّى ظُنَّ قُرصًا مُفرَغًا مِن فَضَّةٍ في بُردَةٍ خَضراءِ
وَغَدَت تَحُفُّ بِهِ الغُصونُ كَأَنَّها هُدبٌ يَحُفُّ بِمُقلَةٍ زَرقاءِ
وَلَطالَما عاطَيتُ فيهِ مُدامَةً صَفراءَ تَخضِبُ أَيدِيَ النُدَماءِ
وَالريحُ تَعبَثُ بِالغُصونِ وَقَد جَرى ذَهَبُ الأَصيلِ عَلى لُجَينِ الماءِ
ابن خفاجة
تعد مكانة الأدب الأندلسي بين الآداب الأخرى والتي قد حظت بوافر من السمات التي جعلت منه محطاً لروافد جديدة في عالم الأدب، فأبرز ما أثاره كان الهجاء والرثاء، حيث لازم الهجاء والرثاء سكان الأندلس منذ وقوعها في الأزمات والظروف السياسية، وأيضا الحروب والمواجهات المباشرة بينهم وبين النصارى التي لم تهدأ منذ فتح الأندلس على يد طارق بن زياد.
فالمعارك الدموية وسقوط الشهداء والمدن كانت من مشعلات فتيل الحزن والرثاء في صدور الأندلسيين، فتأثرهم بالمدن الضائعة قد أسهم في إدخال الشعر الأندلسي إلى عالم آخر لم يعتده، فكانت بداية لهيب النار في باكورة القرن الخامس الهجري، أي الحادي عشر الميلادي.
فانطلقت الشرارة بسقوط المدن مخلفةً شرخا في نفوس الأندلسيين، ومن هذه المدن التي دونت في أشعار الأندلسيين وكان لها منزلة عندهم ثلاث مدن وهي: مدينة بربشتر، وطليطلة، ومدينة بلنسية، وخلف سقوط هذه المدن سبيا للنساء وقتلا وأسرا بعشرات الآلاف، واضعةٌ أثرها وبصمتها في كتب التاريخ لتدون وحشية الإسبان المحتلين الذين أنهوا عصراً ذهبياً في الأندلس بقيادة المسلمين، زاهرةً بالعلم والأدب والطبابة وعلم الفلك..، ولتبرز لنا أثيراً شعرياً وجد مكانه بين نخب الأشعار والآداب.
الباكورة:
إذًا فتح باب النكبات، لكن كل نكبة قد حفرت اسمها في ذاكرة التاريخ، فالبعد النفسي الذي كان يضمه الإسبان في خلجات صدورهم التي زاروها الشك (هل هي بداية انهيار أم للقصة بقية؟)، كانت بدايتها بنكبة سقوط مدينة بربشتر على يد النورمانيين سنة 456هـ، وتعد بداية نكوس المسلمين، فمن هنا بدأ صراع الخوف يتسلل في قلوبهم ليكتب بداية عصر طويل من الذل والعار الذي لم نتعود عليه، فمحاصرة واستيلاء النورمانيين على مدينة بربشتر الذي لم يكن محض الصدفة أو الفجاءة بل كان حصيلة انهيار القوى الداخلية، فكان من المتوقع أن يتحرك يوسف بن هود لنجدتها وفك الحصار لكنه كان خلاف ذلك، فاستمر الحصار 40 يوماً وكثر الجوع والعطش، فخنع الأندلسيون إلى مطالبات النورمانيين بالدخول للمدينة وأعلنوا استسلامهم وطلب الأمان، فكان لهم ما طلبوا من أمن النصارى الذين شربت قلوبهم بالغدر والخيانة، لكن لم يكن النورمانيون محلاً للثقة، فكان طبعهم خاضعا للمتاهرات الصليبية، فطلب المسلمون الأمان كان بمثابة تسليم رقابهم للنورمانيين، فغدروا بهم وقتلوهم جميعاً، ولم يتركوا وراءهم إلا اثنين وهما: ابن الطويل وكان قائداً للمدينة، وقاضيها ابن عيسى، وصار عدد القتلى والسبي حسب كتب التاريخ التي درست تاريخ الأندلس فيها خمسين ألفاً من الأندلسيين المسلمين، (وذِكرنا للمسلمين خاصة بسبب وجود بعض الطوائف الأخرى التي كانت تسكن الأندلس)، وحطّت في يد النورمانيين الغنائم والجواري البكار، وعند رفع قائد النورمانيين يده عن المدينة أشرف على إنزال حامية فيها عددها ألف وخمسمائة من الخيالة وألفان من الرجالة أشرفوا على مراقبة الوضع فيها تحسباً من نكوص المسلمين إليها مجدداً.
ثم اتبعتها مدينة طليطلة سنة 478هـ بعد محاصرة الأذفونش لها، ومدينة بلنسية التي سقطت في يد القمبيطور سنة 487هـ وكان سبب سقوطها فرقة وتشتت الأندلسيين مما سهل خضوع المدينة لحكم الأذفونش.
التأثرات النفسية في الأدب الأندلسي:
قد تجلت قصائد كبار الشعراء الأندلسيين في تلك البرهة آخذة بالتأثير النفسي الذي أصاب أهل الأندلس جراء سقوط المدن، فرسمت هذه السقطات مسلكاً آخر للأدب الأندلسي، فقد برز في قصائد الشعراء أسلوب الهجاء والرثاء، خاطين بذلك لوحة تعبيرية عن المعاناة المحيطة بالأندلسيين، فمن أبرز ما جاء في الشعر الأندلسي هي قصيدة أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني، وكان من الأصدقاء المقربين من أمير إشبيلية المعتمد بن عباد، فعند سقوط مدينة بربشتر كشف أبو الحفص عن أبيات كتب فيها:
أعباد حل الرزء والقوم هجع على حالة من مثلها يتوقع
فلق كتابي من فراغك ساعة وإن طال فالموصوف للطول موضع
إذا لم أبث الداء ربّ دوائه أضعت وأهل للملام المضيّع
ومن خلال الأبيات نكتشف الحالة النفسية التي كان يمر بها أبو الحفص، حيث كان يراسل المعتمد حاثاً إياه بالجهاد.
ومن خلال أبيات أخرى كتبها نرى أيضاً استنهاضه ابن العباد حيث يقول:
أعباد ضاق الذرع واتسع الخرق ولا عرب في الدنيا إذا لم يكن شرق
ودونك قولا طال وهو مقصرا وللعين معنى لا يغيره النطق
إيك انتهت آمالنا فارم ما دهى بعزمك يدمغ هامة الباطل الحق
ومن النثريات ما كتبه الأديب الكبير ابن عبد البر، فخط رسالةً قاصداً بها أهل الأندلس ومتكلماً نيابةً عن أهل بربشتر حيث يقول:
«فإنا خاطبناكم مستنفرين، وكاتبناكم مستغيثين، وأجفاننا قرحى، وأكبادنا جرحى، ونفوسنا منطبقة، وقلوبنا متحرقة، وذلك أنه أحاط بنا عدونا كإحاطة القلادة بالعنق..».
وتسلل ابن عبد البر من خلال الرسالة للقلوب لكي يحاول استثارة الناس والطوائف لنصرة بربشتر.
دخول الأدب الأندلسي إلى عوالم الهجاء والرثاء كان من محل ابتلاء أسر أهله نحو الهيجان النفسي وتأثيراته، ولكن في الوقت نفسه شرعت أبواب فصل جديد في عالم الأدب الأندلسي، لتحكي حكاية عظيمة مفادها (أنا التاريخ نفسه!).
r.alstrawi10@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك