عـبر ملحق «أخبار الخليج الثقافي»، العدد 16948 الموافق يوم السبت 17 أغسطس 2024 كتب الأخ علي الستراوي مقالته بعنوان «ما بين رائحة الكتاب الورقي والرقمي»، حيث أشار ضمن مقارنة سريعة ذات بُعد عـاطفي ما بين العالمين وضمنها دراسة أجنبية وضعت عالم الكتاب الورقي بمواجهة الكتاب الإلكتروني، ومن صلب اهتمامي الشخصي بعالم الكتاب، أجدني منجذبًا للرد على ما تفضل به كاتب المقال رغـبة مني في مداخلة سريعة، عـلها تعطي القراء الفائدة بهذا الخصوص فأقول:
أتذكر هنا بهذا الخصوص ما أشار إليه الشاعـر والإعـلامي زاهي وهبي في أكثر من حلقة ضمن برنامج (بيت القصيد) الذي تقدمه فضائية الميادين.. أنه يحب أن يتذوق الكتاب بحواسه الخمس.
أعـتقد أننا معشر المثقفين ممن لا يزال في عقده الخامس أو من أصبح على مشارف الستين عـامًـا فأكثر، كلنا بلا استثناء من أبناء تلك الأجيال التي ربطتها عـلاقة حميمة مع الشكل والوعـاء التقليدي للمعرفة ألا وهو الكتاب الورقي، ارتباط قوي راسخ في المخيلة والوجدان وبأسلوب الحياة من بداية مراحلنا الدراسية حتى بلوغـنا الحياة الأكاديمية وما بعدها من محطات الحياة، بقي الكتاب هو ما تعارفنا عليه وألفناه حاملا للمعرفة والأدب ومتعـة القراءة والتلقي والتفاعـل مع كتابنا المفضلين على صعيد الساحة المحلية والعربية على حـدٍ سواء ولكـن.
لنتوقف عـند هذه الجزئية المتعلقة بتذوق الكتاب والاقبال عليه في شكله الورقي، هـل هي تنطبق على أجيال أخرى أصغر سنًا؟ لنأخذ هؤلاء ممن ولـد في مطلع الألفية الجديدة كعينـة ونقيس مستوى شغفهم بالكتاب الورقي، سنجد الكثير من أبناء هذا الجيل متعلق بجهاز «الكندل أو الجهاز اللوحي الذكي أو كومبيوتره المحمول» يحمل عبر ذاكرته الإلكترونية آلاف الكتب ويقرأ ويتفاعـل مع العالم بحيوية ونشاط تضاهي تلك الأجيال الأكبر سنًا بحيث تجاوزتنا بمراحل في طبيعة تعاطيـها مع أدوات عصرنا الراهـن وثورته التكنولوجية وسرعـتها الخرافية التي لا نستطيع مواكبة تطوراتها والقفزات التي تحققها على مختلف الصعـد.
نتفق من حيث المبدأ كما أشار الأخ «الستراوي» إلى أن للكتاب الورقي صحوة ظلت تحمينا من وهـج الحاسوب الضار، فلا أشعـة تغـزو العيون وتسبب العمى، وأن الكتاب الورقي يبقى على رف المكتبـة ينتظرك ليكون طـوع يديك وأن الكتب عـبر ميلادها التاريخي تنتقل من عـمر إلى آخَـر وهي الأكثر بقاءً على تقلبات الزمن. كـل ما سبق مع احترامي «للستراوي» يمكن إدراجـه في إطـار محبـة خالصة وعـلاقة أصيلة مع الكتاب الورقي لكنها عـالقة في نطـاق محدوديـة العلاقة مع الشكـل التقليدي لتلقي المعرفـة.. فإنسان هذا العصـر شرع يتفحص المضمون ويسعى إليـه من حيث الموضوعـية البحتة غـير آبـه أو ملتفت إلى طبيعـة الوعـاء الذي يحفـظ المعلومة، ولا يتذوق وفـق مبدأ القارئ التقليدي «يقرأ بالحواس الخمس» أو يستنكـف عـن فعل التحصيل المعرفي.
فالكتاب الإلكتروني بالذات المقرصن وغـيره أصبح متوافرًا عـبر الشبكـة في مختلف ميادين المعرفة وبكبسـة زر نتمكن من الوصول إليه وربما هذا هو ما جعـل معارض الكتاب العربية لدينا اليوم تعاني من تكدس المعروض كـل عـام وتشهد قلة إقبال جمهور القراء خصوصًا مع ارتفاع أسعار المواد الخام الداخلة في صناعـة الكتاب الورقي والتي لا يمكننا في العالم العربي التحكم في بورصاتها لكوننا لا ننتج موادها الخام.
الحقيقـة المرة التي لا بد من الإقـرار بها اليوم في وجهـة نظـري وكم يؤلمني ذلك.. أن عصر الكتاب الورقي آخـذ في الأفول بالرغـم من مكابرتنا وإصرارنا كمثقفين وكتاب على تجاهل حقائق الواقع، فالطفرات الرقمية التي نشهدها تفرض تحديات جمة على الكتاب الورقي، حتى سلوك القراء اليوم أضحت تسيطر عليه ثقافـة «الدليفري» وما عـاد يتعب نفسه كيما يدخل إلى مكتبة فيشتري كتابه المفضل. نتمنى واقع أفضل للكتاب الورقي في ظـل ما يعانيه أصلا من عـقبات تقليدية صارت قديمة وتحاصر انتشاره مثل صرامة الرقابة على المضمون الفكري وتعقيد خدمات الشحن والتفريغ وغلاء أسعار الشحن الجوي وارتفاع سقف الضرائب المفروضة على حرية انتقال الكتاب من بلد إلى آخَـر وكلها مصائب جمة تشعل الرأس شيبًا تثبت بأن الكتاب الورقي في دولنا العربية تحول إلى صناعـة كاسدة تترك الكاتب العربي محاصرًا بفواتير خسائره وحينما يرحل عن هذه الدنيا، توزع إصداراته مجانًـا في مجلس تعزيـة ذويـه، «فتعسًـا لرزق الـكـتَـبة ما أتعـبه»!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك