زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
المستدين ليس فقيرا بالضرورة
لأننا نستخدم في أحاديثنا اليومية مفردات ومصطلحات ذات جذر لاتيني، مثل التلفزيون والسينما والأفلام والكمبيوتر والموبايل، فإن بعضنا يحسب أن ذلك حادث بسبب فقر اللغة العربية، وقد يكون هذا صحيحا فقط إذا كان رجل الأعمال المليونير يعتبر فقيرا لأنه يستعير الأموال من البنوك المرة تلو الأخرى، بينما حقيقة الأمر هي ان ذلك المليونير يجيد توظيف الأموال التي يستدينها لتعزيز مركزه المالي، والشاهد هنا هو أن جميع اللغات الحية تؤثر في غيرها وتتأثر بها، ولا يعيب لغة ما أن تستعير مفردات من لغة أخرى وتخضعها لقواعد تصريفها، وبالمقابل فإن اللغات تتقوقع عندما لا يكون للناطقين بها منتوج ثقافي حضاري، أو قدرة أو رغبة في التفاعل مع محيطهم الجغرافي، ومن بين اللغات المحكية في عالم اليوم هناك نحو ثلاثة آلاف لغة مهددة بالاندثار في غضون ثلاثين او خمسين سنة من الآن، وجاء على اللغة العربية حين طويل من الدهر ظلت فيه متقوقعة في محيط جغرافي شديد الضيق، ثم جاء الإسلام وصارت العربية لغة القرآن، وشيئا فشيئا نشأت امبراطورية إسلامية من بلاد السند شرقا الى تخوم المحيط الأطلسي غربا، ودخلت شعوب أعجمية كثيرة في دين الله أفواجا وتبنت اللسان العربي أفواجا، وصارت العربية لغة العلوم النقلية كالفقه والتشريع والتفسير والكلام، والعلوم الطبيعية كالطب والفلك والكيمياء، وبهذا أثَّرت العربية في لغات شعوب تلك الإمبراطورية وأسهمت في إثرائها، وأخذت منها بعض كلماتها ليس بالضرورة لعدم وجود ما يقابلها في العربية، ولكن لتسهيل التخاطب مع الشعوب الناطقة بلغات أخرى، واعتنقت الإسلام، وعندك كلمة سامان المستخدمة في منطقة الخليج بمعنى «مختلف الأغراض».
ثم تقلصت تلك الإمبراطورية الإسلامية، ولكن بعد ان تركت بصمات واضحة في اللغات الهندو-أوروبية، ويضم «معجم الألفاظ الإسبانية البرتغالية المشتقة من العربية» نحو ثمانية عشر ألف كلمة ذات أصل عربي، وفي مجال علوم البحار والملاحة هناك نحو أربعمائة كلمة إسبانية جذرها عربي، وهناك نحو مائتين وثمانين كلمة عربية الأصل في اللغة الفرنسية المعاصرة، وأربعمائة ونيف مفردة عربية في اللغة الرومانية، والإنجليز أخذوا من العربية مئات الكلمات أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قبطان/ كيمياء/ العنبر/ الكحول/ قالب/ الجبر/ صك أو شيك/ خوارزمية/ قهوة/ قلوي/ قطن/ شفـــرة/ إكسير/ صفر/ سُكر/ زعفران/ كحل، وبدورهم أخذ العرب عن اللغة التركية مفردات مازالت متداولة في وجود نظائرها في اللغة العربية: شنطة (حقيبة)/ أسطى (الحرفي الماهر) أبله (معلمة)/ كوبري (جسر) كرباج (سوط)، ومازالت «جي» التركية لـ«النسبة» مستخدمة في كثير من الدول العربية (سفرجي / بلطجي/ قهوجي).
وفي القرآن الكريم أسماء أعلام أجنبية منها نوح وجبريل وعمران ولوط، ومفردات أصولها فارسية، وسريانية، وعبرية، ويونانية، وحبشية، وغيرها مثل أباريق، إبراهيم، استبرق، إنجيل، توراة، زنجبيل، سجيل، طاغوت، عدن، فرعون، فردوس، ماعون، مشكاة، ولا يطعن ذلك في أن القرآن جاء «بلسان عربي مبين»، فاللغات كائنات حية، والتوافق والتداخل بينها شائع ومعلوم، فاللغتان العبرية والتركية مثلا بهما آلاف الكلمات ذات الأصول العربية، ولا يزعم أحد أن هذه غير عبرية وتلك غير تركية، واللغة السريانية بحكم الجيرة تشترك مع العربية في كثير من المفردات والتراكيب، وهناك من يرجح أن الكلمات التي توصف بالأعجمية في القرآن ليست مستعارة، بل هي مشتركة بين العرب ومن حولهم من شعوب رومانية وفارسية ونبطية وحبشية.
بعد أن دارت على العرب الدوائر، صاروا، وهمُ الذين شادوا واحدة من أكبر وأقوى الامبراطوريات في العالم، جزءا من امبراطوريات بريطانيا وتركيا وفرنسا، وعوضا عن بذل معارفهم وعلومهم للشعوب الأخرى صاروا يستوردونها ومعها المفردات والمصطلحات الخاصة بها، بدرجة أن صارت هناك معارضة قوية لتعريب المناهج الدراسية في غالبية الدول العربية، بحجة افتقار العربية إلى المصطلحات والعبارات الدقيقة اللازمة للتعبير عن دقائق العلوم الطبيعية، بينما كانت العربية هي «أصل» معظم تلك العلوم، عندما كانت ذات حمولة معرفية ضخمة وحيوية ونفّاذة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك