زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عقوبة بدنية سعرها بالدولار
جُل ما نعرفه في العالم العربي عن العولمة هو أن «العصمة» فيما يخص أحوال بلداننا صارت في يد واشنطن، ولهذا يهتم عموم العرب هذه الأيام بفواصل الردح بين مرشحي الرئاسة الأمريكية كامالا هاريس ودونالد ترامب، بينما العولمة وفي أبسط تجلياتها تعني أن شخصاً من بوركينا فاسو يستطيع أن يقاضي شخصاً من فنزويلا أمام محكمة في الدنمارك، وهذا يفتح أمامي باب الثراء المشروع، مقتديا بالسيد بول هوجان الأسترالي الذي رفع دعوى على مدرس التربية الرياضية، الذي ضربه على يده بحزام جدلي قبل 17 سنة، عندما كان عمره 13 سنة مما سبب له عقدة نفسية، جعلته عاجزاً عن استخدام يده تلك بكفاءة! يعني بعد 17 سنة اكتشف أن يده غير سليمة! وهذا يذكرني بمثل شعبي مصري طريف وبليغ يقول: بعد سنة و3 (تلات) أشهر جات المُعزية تشخر! والترجمة لذوي الأمخاخ التخينة المصفحة هي ان الإعراب عن الحزن الشديد بعد مرور وقت طويل على الأمر الذي سبَّبْ الحزن، واستوجب تقديم العزاء ضرب من الاستهبال المستهجن، ويسري مفعول المثل أعلاه حتى في الأفراح، فإن يأتيك شخص يصيح بصوت عال مهنئا بقدوم طفلك الأول، وذلك الطفل التحق بالروضة، أيضا من قبيل المعزية المستهبلة التي تشخر بعد ان كاد أقارب المرحوم ينسون أمره.
المهم أن هوجان حصل على تعويض قدره مليون وثلاثمائة مليون دولار!
ولو نلت تعويضاً قدره 5 دولارات عن كل ضربة نلتها في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة لصار رصيدي المصرفي يضاهي رصيد بيل غيتس!
ومن عجائب الأمور أن معظم الجلد الذي تعرضت له كان على يد جدي الشيخ الحاج فرحان، الذي كان يدرسنا العلوم الدينية في المرحلة الابتدائية، ولم يكن في غالب الأحوال يقصد ضربي، بل كانت عادته أن يدخل حجرة الدراسة حاملاً جريدة نخل طويلة، وشاء حظي العاثر أن أجلس في الصفوف الأمامية لضعف قدرتي على الإبصار، (وبسبب ذلك اختار لي مدير المدرسة اسم دلع هو عموش)، وكان الحاج فرحان إذا سمع إزعاجا في الصفوف الخلفية، هوى بالجريد على الجالسين في الصفوف الأمامية، وإذا أخطأ تلميذ في موقع لا تصله الجريدة نال الضربة (بالوكالة) أحد الجالسين أمامه
ذات مرة زارنا مفتش تعليم إنجليزي، حاملاً معه صناديق من الحلوى (عرفنا بعد ذلك بسنوات طوال أنها كانت ماكنتوش)، وفاجأ المفتش جدي بالمصافحة، وما إن خرج المفتش حتى مسح جدي يده على المصحف، ثم خرج ليغسلها، فمددت يدي إلى علبة الحلوى، التي أدركت أنها من الصنف الممتاز، لأن الكلام المكتوب في العلبة كان باللغة الإنجليزية، (إلى عهد قريب كان السودانيون لا يشترون أي سلعة ما لم تكن «ميد إن إنجلاند» أي مصنوعة في إنجلترا، والى يوم الناس هذا فإن معظم السودانيين لا يستخدمون الا معجون سيجنال للأسنان، وصنف السجائر المستورد القابل للتسويق في السودان هما روثمانز وبنسون آند هيدجز، بينما المدخنون من بقية شعوب المنطقة عملاء للأمريكان ويستخدمون سجائر مالبرا وينطقونها خطأ مارليبورو). المهم أنني خمشت كمية من قطع الحلوى الإنجليزية، فعاد جدي الحاج فرحان ووجدني أكاد أختنق بعد أن حشرت نحو سبع قطع في فمي، بعضها بأوراق تغليفها، محاولاً ازدرادها قبل أن يكتشف أمري، ولا أذكر كم ضربة تلقيت، ولكنني أذكر أن تلك الحلوى صارت علقماً في فمي، وإلى يومنا هذا أبو الجعافر معقد من الماكنتوش، فقد أرغمني الرجل على أن أصب بقية الحلوى في كيس ورقي وأهرسها بقدمي حتى لا تصبح صالحة للأكل، وزملائي في الصف يتحسرون على الحلوى التي ضاعت سدى، ولم نكن وقتها نعرف أن الإنجليز مستعمرون وأن المفتش كان يريد كسب قلوبنا بالحلوى!
ولو خاطبت لجنة حقوق الإنسان الدولية بشأن ما لحق بي من ضرب، بسبب جدول «الضرب»، لأصدر من مجلس الأمن قرارا يمنع تدريس تلك الجدول السخيف للتلاميذ في الدول النامية من منطلق أنه أداة تعذيب، ولا داعي لتدريسه أساساً من منطلق أن الرياضيات والعلوم ترف ذهني لا تحتاج إليه الشعوب التي تعاني من مختلف صروف الضرب!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك