العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لماذا طلقت لندن

تحدثت‭ ‬في‭ ‬مقالي‭ ‬يوم‭ ‬أمس‭ ‬عن‭ ‬زيارتي‭ ‬لجمهورية‭ ‬جورجيا،‭ ‬وإعجابي‭ ‬بتضاريسها‭ ‬وطقسها‭ ‬والخضرة‭ ‬الزاهية‭ ‬لجبال‭ ‬القوقاز،‭ ‬وقلت‭ ‬ان‭ ‬الأمر‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬ضايقني‭ ‬طوال‭ ‬وجودي‭ ‬هناك‭ ‬هو‭ ‬التجهم‭ ‬والتكشيرة‭ ‬التي‭ ‬تعلو‭ ‬وجوه‭ ‬معظم‭ ‬أهل‭ ‬البلاد،‭ ‬وتجولت‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬ريفها،‭ ‬وفي‭ ‬زيارة‭ ‬لذات‭ ‬منطقة‭ ‬غنية‭ ‬بالأعناب‭ ‬والخضرة،‭ ‬فوجئت‭ ‬بكرم‭ ‬غير‭ ‬معهود‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المنطقة،‭ ‬ففي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المحلات‭ ‬الصغيرة‭ ‬والفخمة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬يديرونها‭ ‬يقدمون‭ ‬لي‭ ‬أكواب‭ ‬عصير‭ ‬فواكه‭ ‬داكن‭ ‬اللون،‭ ‬وما‭ ‬منعني‭ ‬من‭ ‬تذوق‭ ‬ذلك‭ ‬العصير‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬رأيت‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأجناس‭ ‬والسحن‭ ‬يحملون‭ ‬أكواب‭ ‬ذلك‭ ‬العصير‭ ‬ويمشون‭ ‬بخطى‭ ‬غير‭ ‬متوازنة،‭ ‬وعلمت‭ ‬بحاستي‭ ‬السادسة‭ ‬انه‭ ‬ذلك‭ ‬العصير‭ ‬‮«‬مش‭ ‬عصير‮»‬‭ ‬بل‭ ‬نبيذ‭ ‬العنب‭ ‬وانه‭ ‬يتم‭ ‬الترويج‭ ‬له‭ ‬بتقديم‭ ‬عينات‭ ‬منه‭ ‬مجانا،‭ ‬وشرعت‭ ‬في‭ ‬الانسحاب‭ ‬التكتيكي‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬ولكن‭ ‬السائق‭ ‬الذي‭ ‬أوصلنا‭ ‬اليه‭ ‬صار‭ ‬عدوانيا‭ ‬تجاهي‭ ‬فتراجعت‭ ‬تكتيكيا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وطلبت‭ ‬سيارة‭ ‬أوبر‭ ‬أخرى‭ ‬تفاديا‭ ‬لذلك‭ ‬السائق‭ ‬السكران‭ ‬بالمجان‭.‬

أحيانا‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬ويتستون‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬لندن،‭ ‬وأنهض‭ ‬فزعا‭ ‬وأنا‭ ‬أتصبب‭ ‬عرقا،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬اكتشف‭ ‬انني‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬حتى‭ ‬أتعمد‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬التام‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬‮«‬الاطمئنان‮»‬‭.. ‬نعم‭ ‬فالفترة‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬كانت‭ ‬كابوسا‭ ‬متصلا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬الى‭ ‬بيتنا‭ ‬يمر‭ ‬بخمارة،‭ ‬يدخلها‭ ‬ويخرج‭ ‬منها‭ ‬قوم‭ ‬عباراتهم‭ ‬فظة‭ ‬حتى‭ ‬وهم‭ ‬يشتمون‭ ‬حجارة‭ ‬الطريق‭. ‬وما‭ ‬أعاد‭ ‬ذكرى‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬التعيسة‭ ‬هو‭ ‬حكاية‭ ‬بنت‭ ‬عمرها‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬كانت‭ ‬تلعب‭ ‬مع‭ ‬جدها‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أهلها‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أحياء‭ ‬لندن،‭ ‬وكان‭ ‬المطلوب‭ ‬ان‭ ‬تختبئ‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يعثر‭ ‬عليها‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أعطى‭ ‬الجد‭ ‬الفتاة‭ ‬مهلة‭ ‬لتجد‭ ‬مخبأ‭ ‬مناسبا،‭ ‬شرع‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭. ‬وبعدها‭ ‬بساعات‭ ‬كانت‭ ‬طائرات‭ ‬هليكوبتر‭ ‬تحلق‭ ‬فوق‭ ‬المنطقة‭ ‬المحيطة‭ ‬ببيت‭ ‬الفتاة‭ ‬بحثا‭ ‬عنها‭ ‬وعشرات‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭ ‬والمتطوعون‭ ‬يجوسون‭ ‬كل‭ ‬شبر‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأثناء‭ ‬عادت‭ ‬أم‭ ‬البنت‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬علمت‭ ‬باختفاء‭ ‬بنتها‭ ‬حتى‭ ‬انهارت‭ ‬وصارت‭ ‬تحت‭ ‬رعاية‭ ‬المسعفين‭. ‬وبعد‭ ‬ثماني‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬اللامجدي‭ ‬دخل‭ ‬شرطي‭ ‬البيت‭ ‬وصار‭ ‬يقلب‭ ‬محتوياته‭ ‬للمرة‭ ‬الثالثة‭. ‬ومد‭ ‬يده‭ ‬وسحب‭ ‬حقيبة‭ ‬ملابس‭ ‬كانت‭ ‬تحت‭ ‬سرير‭ ‬وفتح‭ ‬الحقيبة‭ ‬فإذا‭ ‬بالبنت‭ ‬المفعوصة‭ ‬نائمة‭ ‬بداخلها‭ ‬‮«‬نوم‭ ‬الهنا‮»‬‭. ‬قررت‭ ‬الاختفاء‭ ‬من‭ ‬جدها‭ ‬بدخول‭ ‬الحقيبة‭ ‬وأغلقتها‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬ولما‭ ‬طال‭ ‬انتظارها‭ ‬للجد‭ ‬غلبها‭ ‬النعاس‭ ‬فنامت‭.‬

أن‭ ‬يختفي‭ ‬شخص‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬عمره‭ ‬عن‭ ‬البيت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬4‭ ‬ساعات‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬مثل‭ ‬لندن‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬العادة‭. ‬أمر‭ ‬مرعب‭.. ‬كان‭ ‬ولدي‭ ‬الأكبر‭ ‬يعود‭ ‬عادة‭ ‬من‭ ‬مدرسته‭ ‬في‭ ‬إيست‭ ‬فنشلي‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬عصرا‭ ‬بانتظام‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬جاءت‭ ‬الساعة‭ ‬السادسة‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭.. ‬واتصلت‭ ‬بالمدرسة‭ ‬هاتفيا‭ ‬وأبلغني‭ ‬الحارس‭ ‬ان‭ ‬الجميع‭ ‬غادروا‭ ‬المدرسة‭ ‬قبل‭ ‬ساعتين‭ ‬على‭ ‬الأقل‭.. ‬قدت‭ ‬سيارتي‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬خط‭ ‬سير‭ ‬الحافلة‭ ‬التي‭ ‬يستقلها‭ ‬من‭ ‬والى‭ ‬المدرسة،‭ ‬وبحلول‭ ‬التاسعة‭ ‬مساء‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬أصبت‭ ‬بانهيار‭ ‬جعل‭ ‬قيادتي‭ ‬للسيارة‭ ‬خطرا‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬وعلى‭ ‬غيري‭. ‬فاستأجرت‭ ‬ميني‭ ‬كاب‭ ‬وكان‭ ‬سائقها‭ ‬لحسن‭ ‬الحظ‭ ‬مسلما‭ ‬وشاركني‭ ‬قلقي‭ ‬ومخاوفي‭ ‬وصار‭ ‬يطوف‭ ‬بي‭ ‬شوارع‭ ‬وحواري‭ ‬المنطقة‭.. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ولدي‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يذهب‭ ‬الى‭ ‬بيوت‭ ‬أصدقائه‭ ‬لأنه‭ ‬ببساطة‭ ‬لم‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬مصادقة‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يزوغ‭ ‬الى‭ ‬هنا‭ ‬او‭ ‬هناك‭.. ‬اتصلت‭ ‬بالشرطة‭ ‬ولكنهم‭ ‬قالوا‭ ‬انهم‭ ‬لا‭ ‬يقبلون‭ ‬بلاغا‭ ‬بان‭ ‬شخصا‭ ‬ما‭ ‬مفقود‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬48‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬اختفائه‭.. ‬وفي‭ ‬نحو‭ ‬الـ11‭ ‬ليلا‭ ‬اتصلت‭ ‬بالبيت‭ ‬وجاءني‭ ‬صوت‭ ‬بنتي‭ ‬مهللا‭ ‬بأنه‭ ‬عاد‭ ‬الى‭ ‬البيت،‭ ‬وطلبت‭ ‬من‭ ‬السائق‭ ‬ان‭ ‬يتجه‭ ‬بي‭ ‬الى‭ ‬البيت‭ ‬وقد‭ ‬اعتزمت‭ ‬شرا،‭ ‬ونزلت‭ ‬من‭ ‬السيارة‭ ‬واندفعت‭ ‬نحو‭ ‬باب‭ ‬البيت،‭ ‬وتحرك‭ ‬صاحب‭ ‬السيارة‭ ‬بعيدا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬أجرته‭.. ‬كنت‭ ‬اعتزم‭ ‬ضرب‭ ‬الولد‭ ‬بالبوت‭ ‬والشلوت‭ ‬ولكنني‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬احتضنه‭ ‬وأبكي‭: ‬مدرس‭ ‬الفيزياء‭ ‬قرر‭ ‬إعطاءنا‭ ‬دروسا‭ ‬إضافية‭ ‬وقد‭ ‬اتصلت‭ ‬بهاتف‭ ‬البيت‭ ‬لأبلغكم‭ ‬بذلك‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬ردا‭... ‬المهم‭ ‬أنك‭ ‬عدت‭ ‬سالما‭.. ‬ويومها‭ ‬قررت‭ ‬طلاق‭ ‬لندن‭ ‬ومؤخرا‭ ‬قررت‭ ‬طلاق‭ ‬جورجيا‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا