زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
تحية متأخرة
في برلمانات العالم العربي، يكون كثير من النواب الأعضاء فيها من نوائب الزمان، فهم لا ينوبون عمن اختاروهم، بل يصبحون ممثلين في دار أوبرا يتم فيها تقسيم الممثلين (ممثلي الشعب!!) الى مجاميع لكل منها دور مرسوم ومحكوم بنص جاهز، تحت إشراف مايسترو يمسك بعصا غليظة، وتحضرني هنا مقولة الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي بأن الدول العربية لا تقوم بإصلاح سياسي بل «سياحي»، يقتصر على تزيين الواجهات وتلميعها حتى تبدو للناظر من الخارج جذابة وخلابة!!
لعل من تابعوا مقالاتي هنا لبعض الوقت لاحظوا اهتمامي الشديد بأمر التعليم، من زاوية انني مارست التدريس ثم صرت صاحب عيال، لم يكن عندي ما اقدمه لهم سوى أفضل الفرص التعليمية التي تسمح بها ظروفي المالية، وتحضرني في هذا الصدد حكاية النائب سيف محمود عضو البرلمان المصري، (في العصر الحسني مباركي المباد) الذي أوردت حكايته العديد من الصحف، وكيف أنه نجح في الحصول على الشهادة الاعدادية (المتوسطة)، عندما كان أحد شروط عضوية البرلمان المصري هو الإلمام بالقراءة والكتابة، وكان سيف محمود يقرأ ويكتب عندما ترشح لعضوية البرلمان وفاز بها في ثلاث دورات سابقة، وظل طوال تلك السنوات يحظى بثقة الناخبين، ولكنه ما إن سمع بأنه سيتم تعديل تلك الشروط بحيث تنص على ضرورة حصول المرشح للبرلمان على الشهادة الإعدادية كحد أدنى، حتى جلس يستذكر دروسه مستعينا بأفراد أسرته حتى نال 110 درجات من أصل 140 درجة، بل قرر مواصلة تعليمه لنيل الشهادة الثانوية الصناعية الفنية (لأنه يعمل سلفا في مجال صناعي فني).
اختار سيف محمود الطريق الصعب، وهو التتلمذ، بينما اختار غيره الطرق السهلة وزوروا الأوراق ليؤكدوا أنهم أكملوا تلك المرحلة الدراسية أو هذه، وانكشف امرهم وفقدوا مقاعدهم في البرلمان. وما جعل هذا الرجل المصري محط إعجابي هو أنه لم يحاول ان يخفي عن زملائه وأهل دائرته الانتخابية أنه يدرس مناهج مخصصة لمن هم فوق العاشرة بقليل، بل أعلن على رؤوس الأشهاد أنه تلميذ «إعدادي» وأنه بحاجة الى دروس إضافية في الرياضيات واللغة الانجليزية.. لم يقل: يا عيب الشوم الناس اللي حواليا نُصُّهم عندهم دكتوراه والنص التاني ليسانسات وبكالوريا وكابوريا وحاجات كده من بلاد بره عليها القيمة.. وأنا يا دوب حي الله بتاع ابتدائي.. حيقولوا عليا إيه الدكاتير دول (الدكاتير هي جمع دكتور عندما يكون حامل اللقب ديك – تور).
بالعكس أقام سيف محمود زيطة وزملبيطة واحتفل بحصوله على الاعدادية وأدلى بتصريحات صحفية بتلك المناسبة المهمة في مسيرته الحياتية والعملية. وربما ما حدا به الى إشهار كونه «بتاع إعدادية» ثقته بنفسه، بعد ان بقي في البرلمان 15 سنة رأى خلالها أن حملة شهادات أكاديمية متواضعة قد يكونون أكثر ذكاء ودراية بالقضايا العامة من بعض الدكاتير الطراطير، ومن ثم لم يقرر مواصلة تعليمه العام بل الالتحاق بمدرسة صناعية تضيف جديدا إلى خبرته العملية، رغم علمه أن الناس في «بلد شهادات» ستقول عنه «بتاع صنايعي»، وهم لا يعرفون أن بتاع الصنايعي هو الأوفر حظا في سوق العمل والأعلى قيمة من بتاع النظريات.
دولة قطر نال درجة الماجستير قبل نحو عشرين ونيف سنة شخص اسمه (إن لم تخن الذاكرة) على الهاجري. قال في حوار صحفي إنه التحق بالمدرسة الابتدائية وعمره 12 سنة، وقبلها كان يرعى غنم العائلة، ورعى الهاجري نفسه حتى صار يشغل اليوم منصبا رفيعا في مؤسسة ضخمة. ولم أسمع به بعد ذلك الحوار لأن العصاميين ليسوا طلاب شهرة. وفي الوقت نفسه فإنهم خالون من العُقد التي جعلت الكثيرين من الشخصيات العامة في بلداننا عصامية في جهلها لأنها بدلا من الاستزادة من العلم تستزيد من المكابرة والادعاء والنفخة الكاذبة. او تسعى للحصول على شهادات أكاديمية ذات أسماء طنانة ورنانة دون استحقاق.
لا أعرف أين السيد سيف الآن ولكنني أحييه عبر السنين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك