العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لست متخلفا بل مختلفا

بدأ‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬أريزونا‭ ‬الأمريكية،‭ ‬حيث‭ ‬لبى‭ ‬آلاف‭ ‬الناس‭ ‬دعوات‭ ‬جهات‭ ‬طبية،‭ ‬ووقعوا‭ ‬على‭ ‬أوراق‭ ‬بقبول‭ ‬التبرع‭ ‬بجثامينهم‭ ‬بعد‭ ‬الموت‭ ‬لأغراض‭ ‬علمية،‭ ‬واتضح‭ ‬ان‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬معظمه‭ ‬من‭ ‬تدبير‭ ‬شركات‭ ‬بيع‭ ‬أعضاء‭ ‬البشر،‭ ‬وتم‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬شركة‭ ‬تشتري‭ ‬جثث‭ ‬الموتى‭ ‬لتجري‭ ‬عليها‭ ‬تجارب‭ ‬المتفجرات‭ ‬التي‭ ‬تنتجها‭.‬

معلوم‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬البرامج‭ ‬التلفزيونية‭ ‬المثيرة‭ ‬للجدل‭ ‬في‭ ‬الفضائيات‭ ‬العربية،‭ ‬منقولة‭ ‬بالمسطرة‭ ‬من‭ ‬فضائيات‭ ‬غربية،‭ ‬والنوعية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تصلنا‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬البرامج‭ ‬يتنافس‭ ‬المشاركون‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬أكل‭ ‬الديدان‭ ‬أو‭ ‬التعري‭ ‬او‭ ‬ممارسة‭ ‬الجنس‭ ‬امام‭ ‬الكاميرات،‭ ‬وثمة‭ ‬برنامج‭ ‬امريكي‭ ‬يتعارك‭ ‬فيه‭ ‬المشاركون‭ ‬حول‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬والد‭ ‬الطفل‭ ‬إكس‭! ‬ويجري‭ ‬فحص‭ ‬الحمض‭ ‬النووي‭ ‬للأب‭ ‬المزعوم‭ ‬ثم‭ ‬يقول‭ ‬مقدم‭ ‬البرنامج‭: ‬يا‭ ‬فلان‭ ‬انت‭ ‬والد‭ ‬هذا‭ ‬الطفل،‭ ‬أو‭: ‬أنت‭ ‬لست‭ ‬والده

كان‭ ‬من‭ ‬أبشع‭ ‬الصيحات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الطبيب‭ ‬الالماني‭ ‬غونتر‭ ‬فون‭ ‬هاغينز‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬القناة‭ ‬الرابعة‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬التشريح‭ ‬للمبتدئين‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬أتى‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الجثث‭ ‬وشرع‭ ‬في‭ ‬تقطيعها،‭ ‬ولإضفاء‭ ‬طابع‭ ‬علمي‭ ‬على‭ ‬البرنامج،‭ ‬يشرح‭ ‬أثناء‭ ‬التقطيع‭ ‬وظيفة‭ ‬كل‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬الجسم‭.. ‬وطبعا‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حقنا‭ ‬ان‭ ‬نقول‭ ‬لهم‭ ‬ان‭ ‬ذلك‭ ‬انتهاك‭ ‬لحق‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬الانسان‭ ‬وأنه‭ ‬امتهان‭ ‬لكرامة‭ ‬الانسان‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬تصان‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والممات،‭ ‬لأن‭ ‬تحديد‭ ‬تلك‭ ‬الحقوق‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬شأننا‭! ‬ولأننا‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬الانسان‭ ‬سوى‭ ‬حرية‭ ‬استهلاك‭ ‬الأوكسجين‭ ‬دون‭ ‬دفع‭ ‬ضرائب‭ ‬او‭ ‬جبايات‭.‬

على‭ ‬أيامنا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم‭ ‬كان‭ ‬طلاب‭ ‬الطب‭ ‬يعاملون‭ ‬معاملة‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المسكن‭ ‬والمأكل،‭ ‬وكانت‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬ولا‭ ‬تزال،‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬المبنى‭ ‬الرئيسي‭ ‬للجامعة،‭ ‬ولم‭ ‬تراودني‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الذهاب‭ ‬الى‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭. ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬ان‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬‮«‬مسكونة‮»‬‭ ‬لعلمي‭ ‬ان‭ ‬مختبراتها‭ ‬تضم‭ ‬جثثا،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ممكنا‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬اتناول‭ ‬الطعام‭ ‬مع‭ ‬شخص‭ ‬قام‭ ‬بتقطيع‭ ‬جثمان‭ ‬شخص‭ ‬ميت‭. ‬ومعلوم‭ ‬ان‭ ‬طلاب‭ ‬الطب‭ ‬يتعلمون‭ ‬أصول‭ ‬التشريح‭ ‬على‭ ‬جثث‭ ‬أشخاص‭ ‬‮«‬مقاطيع‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬مقطوعين‭ ‬من‭ ‬‮«‬شجرة‮»‬‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬ممن‭ ‬يموتون‭ ‬داخل‭ ‬السجون‭ ‬او‭ ‬في‭ ‬حوادث‭ ‬ولا‭ ‬يُعرف‭ ‬لهم‭ ‬أقارب‭. ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬استدرجني‭ ‬بعض‭ ‬الزملاء‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المعرض‭ ‬السنوي‭ ‬لكلية‭ ‬الطب،‭ ‬ودخلت‭ ‬المعرض‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬وقعت‭ ‬عليه‭ ‬عيني‭ ‬طفل‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬جنين‭ ‬شبه‭ ‬مكتمل‭ ‬النمو‭ (‬مُخلل‭) ‬في‭ ‬قارورة‭ ‬زجاجية‭ ‬ضخمة،‭ ‬فصرخت‭ ‬وأشحت‭ ‬بوجهي‭ ‬الى‭ ‬الناحية‭ ‬الثانية،‭ ‬وأنا‭ ‬أترنح‭ ‬واستندت‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬طاولة،‭ ‬وفتحت‭ ‬عيني‭ ‬لتحديد‭ ‬منفذ‭ ‬الخروج،‭ ‬واكتشفت‭ ‬ان‭ ‬الطاولة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬اتكئ‭ ‬عليها‭ ‬هي‭ ‬تابوت‭ ‬زجاجي‭ ‬يتمدد‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬رجل‭ ‬ميت‭ ‬يسبح‭ ‬في‭ ‬سائل‭ ‬يمنع‭ ‬جسمه‭ ‬من‭ ‬التحلل،‭ ‬وصرت‭ ‬ارتعد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نقلوني‭ ‬خارجا‭. ‬ولعدة‭ ‬أسابيع‭ ‬بعدها،‭ ‬عانيت‭ ‬من‭ ‬اضطرابات‭ ‬نفسية‭ ‬وعضوية،‭ ‬وعانيت‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬قولوني‭ ‬صار‭ ‬سريع‭ ‬الاشتعال،‭ ‬وينتفض‭ ‬ويصدر‭ ‬أصواتا‭ ‬مخجلة‭ ‬بلا‭ ‬أدنى‭ ‬حياء‭ ‬وتصبح‭ ‬بطني‭ ‬مثل‭ ‬البالون‭ ‬حتى‭ ‬وهي‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الطعام‭!  ‬ولجأت‭ ‬الى‭ ‬‮«‬بَعْشَر‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تحمله‭ ‬العيادة‭ ‬أقدم‭ ‬عيادة‭ ‬نفسية،‭ ‬تقديرا‭ ‬للدكتور‭ ‬طه‭ ‬بعشر‭ ‬أحد‭ ‬رواد‭ ‬الطب‭ ‬النفسي‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬وشكوت‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬الكوابيس‭ ‬وانعدام‭ ‬الشهية،‭ ‬وأعطوني‭ ‬عقاقير‭ ‬ساعدتني‭ ‬على‭ ‬النوم‭ ‬ولكن‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يلازمني،‭ ‬وأحلف‭ ‬بالله‭ ‬صادقا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬‮«‬أُعتِب‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬الكلية‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬المشؤوم،‭ ‬بل‭ ‬صرت‭ ‬تفادي‭ ‬لقاء‭ ‬زملائي‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الطب،‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬‮«‬متوحشين‮»‬،‭ ‬ودارت‭ ‬الايام‭ ‬وقرر‭ ‬أكبر‭ ‬أولادي‭ ‬دراسة‭ ‬العلوم‭ ‬الصحية‭ ‬في‭ ‬نيوزيلندا،‭ ‬وذكر‭ ‬عرضا‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬انه‭ ‬جرح‭ ‬يده‭ ‬أثناء‭ ‬تشريح‭ ‬عضلات‭ ‬شخص‭ ‬ميت‭.. ‬فأحسست‭ ‬بـ‮«‬القرف‮»‬‭ ‬منه‭!.. ‬وتفاديت‭ ‬الأكل‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الصحن‭ ‬لعدة‭ ‬سنوات‭! ‬وبالمقابل‭ ‬جلس‭ ‬الملايين‭ ‬امام‭ ‬شاشات‭ ‬القناة‭ ‬الرابعة‭ ‬البريطانية‭ ‬لـ«الاستمتاع‮»‬‭ ‬بمشاهدة‭ ‬تقطيع‭ ‬جسم‭ ‬ميت‭ ‬لغير‭ ‬أغراض‭ ‬العلم‭.. ‬العبث‭ ‬بالجثث‭ ‬صار‭ ‬‮«‬ترفيها‮»‬‭.. ‬وهم‭ ‬‮«‬متحضرون‮»‬‭ ‬وابو‭ ‬الجعافر‭ ‬‮«‬متخلف‮»‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا