سباق «الترياثِلُون» على نهر التايمز في ضواحي لندن في 9 يونيو 2024 لم يكن كباقي السباقات الرياضية التي أُجريت في المرات السابقة. فهذا النوع من أنواع الرياضات يتطلب التنافس في الوقت نفسه في ثلاثة أنواع من الرياضات المعروفة، وهي السباحة في البحر، أو النهر، أو البحيرة، ثم الجري، وأخيراً ركوب الدراجة.
فالأمر الغريب الذي وقع هذه المرة كان في الجزء المتعلق بالسباحة في نهر التايمز اللندني العريق الذي يُعد من أهم معالم لندن، حيث خرج أكثر من 35 متسابقاً مسرعين ومتألمين قبل الانتهاء من المسافة المطلوبة للسباحة، ولكن لم يكن بسبب التعب، أو الإرهاق من المسافة الطويلة التي يجب أن يقطعها المتسابق لينهي هذا الجزء من السباق، ولكن خرجوا متوجهين مباشرة إلى المستشفى، وهم يعانون من وعكة عقيمة وأعراضٍ مرضية حادة، تتمثل في الإسهال الشديد، والشعور بالدوار والغثيان، وآلام في البطن، وبعضهم تقيأ دماً، علماً بأن هذه الأعراض المرضية الحادة استمرت معهم عدة أيام.
وبعد إجراء التحاليل المطلوبة والاختبارات اللازمة لمثل هذه الحالات لمياه النهر من جهة، ودم المتسابقين المرضى من جهة أخرى، تأكد بأن المتسابقين كانوا يسبحون في مياه نهر التايمز التي كانت ملوثة ومسمومة بمياه المجاري الخام وغير المعالجة التي تصرف مباشرة في مياه النهر بشكل دوري مستمر منذ سنوات طويلة. فعلى سبيل المثال، أفادت التقارير بأنه قرابة 72 بليون لتر من مياه المجاري تم صرفها في نهر التايمز في لندن خلال سنتين فقط.
ولذلك مع السنوات الطوال من صرف مياه المجاري مباشرة إلى بطن النهر، تحول نهر التايمز التاريخي المعروف وطنياً وعالمياً إلى مستنقع آسن مشبع بمياه المجاري، حتى أن عمدة لندن، صادق خان، وصف هذه الحالة الصحية والبيئة الكارثية التي وصلت إليها مياه النهر بأنها «مصدر إحراج وطني»، كما أعلن بأن مياه النهر غير صالحه وغير آمنة كلياً للسباحة الآن، وأن جهود التنظيف وإعادة التأهيل ستستغرق قرابة عشر سنوات. أي أن الشعب البريطاني، وخاصة أهل لندن وضواحيها سيكونون محرومين أكثر من عقد من الزمان من التمتع بهذه الطبيعة النهرية الجميلة.
جدير بالذكر أن هذه الحالة البريطانية ليست مقتصرة على بريطانيا العظمى فقط، وإنما أصبحت الآن ظاهرة تعاني منها بعض الدول المشهود لها تاريخياً بالرقي والتطور، كفرنسا على سبيل المثال لا الحصر.
فمدينة باريس هذه الأيام في سباق محتدم مع الزمن بسبب الاستعداد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي ستنطلق في 26 يوليو، فعليها تجهيز واعداد كافة الملاعب التي ستُقام عليها المنافسات والألعاب الرياضية وجعلها صالحة للرياضيين وتتوافق مع المعايير الأولمبية المعتمدة والاشتراطات الدولية. ومن بين هذه الملاعب هو نهر السين الذي سيحتضن مختلف أنواع الرياضات المائية، وبخاصة السباحة. ولكن هذا المسبح الرياضي يعاني من مشكلة صحية وبيئية مزمنة، وهي عدم صلاحيته للمتسابقين. فهذا النهر المعروف يعاني من تدهور شديد في جودته ونقاوته، فهو غير آمن وغير صحي للسباحة فيه بسبب التلوث الحيوي البكتيري المزمن والمرتفع جداً منذ سنوات طويلة جداً والناجم عن صرف مياه المجاري.
ولكن لماذا تقوم دول متقدمة وعريقة في مجال البيئة والصحة العامة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وغيرهما من الدول المتطورة بمثل هذه الممارسات المشينة التي لا نشاهدها إلا في الدول الفقيرة والمتأخرة التي تفتقر إلى الوعي والتعليم، وينقصها المال والقناعة السياسية لمعالجة مياه المجاري وإنشاء المحطات اللازمة لذلك؟ فلماذا تضطر هذه الدول إلى صرف مياه المجاري الخام المشبعة بكافة أنواع الجراثيم المسببة للأمراض والعلل الحادة، إضافة إلى الملوثات الكيميائية الخطرة في قلب الأنهار؟
في تقديري أن السبب الرئيسي هو عدم مواكبة وملاحقة تطوير وإنشاء الخدمات الضرورية والأساسية للبرامج التنموية والعمرانية والصناعية، مما يعني أن التنمية في هذه الدول كانت تسير بخطى أسرع بكثير، وتنمو بشدة أكبر من بناء وتحديث الخدمات العامة، والتي من المفروض أن تصاحب وتنمو مع نفس نمو البرامج التنموية جنباً إلى جنب، وخطوة بخطوة.
فإذا زاد عدد السكان، سواء من الذين يقيمون أصلاً في البلاد، أو من الزوار المقيمين فترة طويلة، أو من السياح والأجانب، فإن هذه الزيادة السكانية تُشكل عبئاً على المرافق والخدمات العامة الموجودة في البلاد، سواء أكانت خدمات معالجة مياه المجاري، أو توفير مياه الشرب، أو الطرق، أو العلاج الصحي، أو خدمات جمع ومعالجة المخلفات الصلبة، أو الخدمات التعليمية، أو خدمات الطرق وغيرها من المرافق الخدمية الضرورية.
ولذلك إذا كانت هذه الزيادة السكانية لا تصاحبها في الوقت نفسه زيادة وتحديث وتوسعة في الخدمات العامة، فستمثل ذلك ارهاقاً على جودة هذه الخدمات.
فمع الزيادة السكانية، ترتفع أحجام مياه المجاري، وإذا لم توجد محطات معالجة ذات كفاء تشغيلية عالية، فإن مصيرها سيكون بصرفها في المسطحات المائية، أو البرية، أو أية مسطحات أخرى.
فهذا ما حدث في بعض الدول المتقدمة التي لم تتمكن فيها الخدمات من استيعاب وتحمل ومواكبة أعباء البرامج التنموية المختلفة والمتنوعة المتزايدة والمتسارعة.
فهذا الدرس من الدول الغربية المتطورة يجب أن نقف عنده كثيراً، ونعتبر منه، ونتجنب الوقوع فيه، حتى تصبح التنمية أداة بناء ورقي للجميع، وآلية لتحسين مستوى المعيشة في المجتمع.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك