العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وصار الاغتراب قسريا

يحز‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬كثيرا‭ ‬أنني‭ ‬عشت‭ ‬معظم‭ ‬سنوات‭ ‬عمري‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬وطني‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مسعى‭ ‬كسب‭ ‬الرزق،‭ ‬ويكاد‭ ‬يقتلني‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬احتمال‭ ‬أنني‭ ‬لن‭ ‬أرى‭ ‬وطني‭ ‬مجددا‭ ‬لأن‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬تفتك‭ ‬الآن‭ ‬بأهله‭ ‬وتدمر‭ ‬البيوت‭ ‬ومرافق‭ ‬الخدمة‭ ‬ستنجب‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬توقفها‭ ‬رسميا‭ ‬حروبا‭ ‬فرعية‭ ‬يطول‭ ‬أمدها‭ ‬ويطووووول‭.‬

أتذكر‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬الأمريكي‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬دبي،‭ ‬والذي‭ ‬تلقى‭ ‬اتصالا‭ ‬هاتفيا‭ ‬من‭ ‬والده‭: ‬تماسك‭ ‬يا‭ ‬ابني،‭ ‬فعندي‭ ‬لك‭ ‬كلام‭ ‬مزعج‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬أنا‭ ‬وأمك‭ ‬قررنا‭ ‬الانفصال‭ ‬النهائي،‭ ‬فبعد‭ ‬‮«‬35‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬الزواج‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أطيق‭ ‬مجرد‭ ‬النظر‭ ‬إليها،‭ ‬ولهذا‭.. ‬قاطعه‭ ‬الابن‭: ‬وات؟‭.. ‬بلاش‭ ‬حماقات‭ ‬يا‭ ‬بابا‭ ‬وأعطني‭ ‬فرصة‭ ‬أكلم‭ ‬أختي‭ ‬في‭ ‬هونغ‭ ‬كونغ،‭ ‬ثم‭ ‬أعود‭ ‬وأتصل‭ ‬بك‭. ‬وأبلغ‭ ‬صاحبنا‭ ‬أخته‭ ‬بقرار‭ ‬والديهما‭ ‬‮«‬الطلاق‮»‬،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬البنت‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اتصلت‭ ‬بوالدها‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬وقالت‭ ‬له‭: ‬هل‭ ‬صحيح‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬من‭ ‬أخي؟‭ ‬أجابها‭ ‬الأب‭ ‬بـ«نعم‮»‬،‭ ‬فصاحت‭: ‬كفى‭ ‬تخريفا‭ ‬وقرارات‭ ‬طائشة،‭ ‬ولا‭ ‬تقدما‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬خطوة‭ ‬حمقاء‭. ‬أنا‭ ‬وأخي‭ ‬سنكون‭ ‬معكما‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬مساء‭ ‬الغد‭.. ‬بس‭ ‬ولا‭ ‬كلمة‭ ‬يا‭ ‬بابا‭.. ‬وأغلقت‭ ‬الخط‭ ‬الهاتفي‭. ‬هنا‭ ‬التفت‭ ‬الأب‭ ‬الى‭ ‬شريكة‭ ‬حياته‭ ‬طوال‭ ‬35‭ ‬سنة‭ ‬مبتسما‭: ‬أولاد‭ ‬الـ‭.... ‬لم‭ ‬نرهم‭ ‬طوال‭ ‬4‭ ‬سنوات‭ ‬وهاهم‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬إلينا‭ ‬غدا،‭ ‬وأجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬أنهما‭ ‬سيشتريان‭ ‬تذاكر‭ ‬السفر‭ ‬بنفسيهما‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭.‬

توقفت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬عند‭ ‬برنامج‭ ‬في‭ ‬فضائية‭ ‬سودانية‭ ‬عن‭ ‬المغتربين،‭ ‬وبكيت‭ ‬مع‭ ‬رجل‭ ‬عجوز‭ ‬وزوجته‭ ‬خاطبا‭ ‬عبر‭ ‬هاتف‭ ‬البرنامج‭ ‬ولدهما‭ ‬الذي‭ ‬هاجر‭ ‬الى‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬إليهما‭ ‬قط،‭ ‬وقد‭ ‬غادر‭ ‬الملايين‭ ‬السودان‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬الماضية‭ ‬طلبا‭ ‬للقوت‭ ‬ولحياة‭ ‬أفضل،‭ ‬وفي‭ ‬أول‭ ‬سنوات‭ ‬الغربة‭ ‬تكون‭ ‬الطموحات‭ ‬متواضعة‭: ‬بيت‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬شعبي‭ ‬أو‭ ‬حافلة،‭ ‬ولكن‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬فإن‭ ‬السودانيين‭ ‬وأنا‭ ‬منهم‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬المهاجر‭ ‬بلا‭ ‬‮«‬خطة‮»‬‭ ‬معينة،‭ ‬نرى‭ ‬ونسمع‭ ‬عويل‭ ‬مغتربين‭ ‬عادوا‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬ثم‭ ‬صاروا‭ ‬يشكون‭ ‬من‭ ‬الغربة‭ ‬داخل‭ ‬بلدهم،‭ ‬فتغيرت‭ ‬الطموحات‭ ‬والغايات‭: ‬بيت‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬راق،‭ ‬وسيارة‭ ‬آخر‭ ‬موديل،‭ ‬أو‭ ‬زوجات‭ ‬جديدات‭ ‬من‭ ‬الوكالة‭ (‬لا‭ ‬يهم‭ ‬أن‭ ‬العريس‭ ‬المغترب‭ ‬موديل‭ ‬1950‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬لصنفه‭ ‬قطع‭ ‬غيار‭ ‬إذا‭ ‬احتاج‭ ‬إلى‭ ‬زرع‭ ‬قرنية‭ ‬أو‭ ‬نقل‭ ‬كلية‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬معظم‭ ‬المغتربين‭ ‬السودانيين‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬يبقون‭ ‬في‭ ‬المهاجر‭ ‬بسبب‭ ‬مغريات‭ ‬مثل‭ ‬التعليم‭ ‬أو‭ ‬العلاج‭ ‬المجاني‭.‬

ثم‭ ‬صارت‭ ‬الوظائف‭ ‬شحيحة‭ ‬وتدنت‭ ‬المداخيل‭ ‬والرواتب‭ ‬أمام‭ ‬غول‭ ‬الغلاء،‭ ‬وضاع‭ ‬الكثيرون‭ ‬في‭ ‬أدغال‭ ‬المهاجر،‭ ‬ومشكلة‭ ‬صاحبنا‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬إلى‭ ‬أهله‭ ‬منذ‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬ظني‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أحلامه،‭ ‬ولا‭ ‬يجد،‭ ‬من‭ ‬ثم،‭ ‬الشجاعة‭ ‬للعودة‭ ‬الى‭ ‬الوطن‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬قصيرة‭ ‬ويداه‭ ‬خاويتان‭. ‬وهناك‭ ‬المغترب‭ ‬الرِّخم‭ (‬عديم‭ ‬الهِمّة‭) ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يبقى‭ ‬3‭ ‬أو‭ ‬6‭ ‬سنوات‭ ‬متصلة‭ ‬بلا‭ ‬عمل،‭ ‬إما‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬أصلا‭ ‬مقومات‭ ‬دخول‭ ‬المنافسة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬العمل،‭ ‬وإما‭ ‬لأنه‭ ‬يتعلل‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬وظيفة‭ ‬‮«‬في‭ ‬مجالي‮»‬،‭ ‬والنوع‭ ‬الرخم‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬الى‭ ‬الأمور‭ ‬بمنطق‭ ‬‮«‬بهدلة‭ ‬على‭ ‬بهدلة‭ ‬أحسن‭ ‬اتبهدل‭ ‬في‭ ‬بلدي‮»‬‭. ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬شجاعة‭ ‬شاعرنا‭ ‬محمد‭ ‬المكي‭ ‬ابراهيم‭ ‬في‭ ‬المجاهرة‭ (‬في‭ ‬شبابه‭) ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الاغتراب‭ ‬اللامجدي‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭: ‬سأعود‭ ‬لا‭ ‬إبلاً‭ ‬وسقت‭ / ‬ولا‭ ‬بكفي‭ ‬الحصيد‭ ‬روائعا‭ / ‬مدوا‭ ‬بساط‭ ‬الحب‭ ‬واغتفروا‭ ‬الذنوب‭ / ‬وباركوا‭ ‬تلك‭ ‬السنين‭ ‬الضائعة‭ / ‬مازال‭ ‬سقف‭ ‬أبي‭ ‬يظل‭ / ‬ولم‭ ‬تزل‭ ‬أحضان‭ ‬أمي‭ ‬رحبة‭ ‬المثوى‭ ‬مطيبة‭ ‬الجناب‭.‬

على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬واجهت‭ ‬السؤال‭: ‬أنت‭ ‬مغترب‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬‮«‬30‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬فمتى‭ ‬تشبع‭ ‬وتعود؟‭ ‬عدت‭ ‬‮«‬نهائيا‮»‬،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬ولكنني‭ ‬كما‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العائدين‭ ‬واجهت‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬عنها‭ ‬شاعرنا‭: ‬تعبس‭ ‬في‭ ‬وجوههم‭ ‬مآذن‭ ‬الله‭ / ‬ومهرجان‭ ‬الكذب‭ ‬المثقل‭ ‬بالنيون‭ / ‬تصيح‭ ‬أبواب‭ ‬البنوك‭: ‬ارجعوا‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭/ ‬تصيح‭ ‬أبواب‭ ‬الحوانيت‭: ‬إلى‭ ‬الوراء‭/ ‬وتركل‭ ‬العمارات‭ ‬البديعة‭ ‬الرواء‭/ ‬ضلوع‭ ‬أحبابي‭ ‬المشردين‭.. ‬وإذ‭ ‬أسير‭ ‬دون‭ ‬أصدقاء‭/ ‬تخرج‭ ‬لي‭ ‬لسانها‭ ‬الطوابق‭ ‬العليا‭ ‬ويرقص‭ ‬البناء‭.. ‬كيدا‭ ‬وسخرية‭.‬

أقسى‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬أن‭ ‬تحس‭ ‬بأنك‭ ‬غريب‭ ‬في‭ ‬وطنك،‭ ‬والفقر‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬غربة‭ ‬وستر‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬وطن‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا