في يوم 6 يونيو2024، انضمت إسبانيا إلى القضية التي رفعتها جمهورية جنوب إفريقيا أمام المحكمة العليا لمنظمة الأمم المتحدة، متهمة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
لقد جاءت هذه الخطوة في أعقاب قرار مدريد وعاصمتين أخريين في أوروبا الغربية - دبلن وأوسلو- بالاعتراف بدولة فلسطين، وبالتالي كسر الاصطفاف مع السياسة الغربية الراسخة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
ووفقاً للتفكير الأمريكي، فإن الاعتراف بدولة فلسطينية وإقامتها يجب أن يتبع تسوية تفاوضية بين إسرائيل وفلسطين، تحت رعاية واشنطن نفسها بطبيعة الحال.
لم تُعقد مثل هذه المفاوضات منذ سنوات، وقد غيرت الولايات المتحدة الأمريكية في الواقع سياساتها بشأن هذه القضية بشكل شبه كامل في ظل الإدارة السابقة للرئيس الجمهوري دونالد ترامب.
لقد اعترفت تلك الإدارة بالمستوطنات اليهودية غير الشرعية وغير القانونية في فلسطين واعتبرتها «شرعية» و«قانونية»، مثلما اعترفت بسيادة إسرائيل على القدس الشرقية المحتلة، ضمن عدة تنازلات أخرى.
وبعد مرور عدة سنوات في ظل إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، لم يتم فعل الكثير لعكس الوضع الراهن الجديد أو تغييره بشكل جذري.
وفي الآونة الأخيرة، بذلت سلطات واشنطن كل ما في وسعها لدعم الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة.
بصرف النظر عن تزويد إسرائيل بالأسلحة اللازمة لتنفيذ جرائمها في القطاع، ذهبت الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد تهديد الهيئات القانونية والسياسية الدولية التي حاولت محاسبة إسرائيل، وبالتالي إنهاء «إبادة» الفلسطينيين في غزة - وهو المصطلح الذي استخدمه في 20 مايو 2024، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان.
وتواصل سلطات واشنطن التصرف بهذه الطريقة على الرغم من حقيقة أن إسرائيل ترفض التنازل عن أي طلب أو تلبية أي توقع أمريكي فيما يتعلق بالسلام والمفاوضات.
وفي الواقع فإن الخطاب السياسي الإسرائيلي غارق في خطاب الإبادة الجماعية، في حين أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نفسها تترجم هذه اللغة على أرض الواقع وتنفذها في قطاع غزة.
وتشهد الضفة الغربية، حيث من المفترض أن يتشكل الجزء الأكبر من الدولة الفلسطينية، اضطرابات خاصة بها. فالعنف هناك غير مسبوق مقارنة بالعقود الأخيرة.
وفي مختلف أنحاء الضفة الغربية، يقوم عشرات الآلاف من المستوطنين بإضرام النار في المنازل، والسيارات، ومهاجمة الفلسطينيين مع الإفلات التام من العقاب، وهم في الواقع يقومون بكل ذلك في كثير من الأحيان إلى جانب أفراد الجيش الإسرائيلي.
ومع ذلك، وعلى الرغم من التوبيخ اللطيف العرضي والعقوبات غير الفعالة على عدد قليل من المستوطنين، تواصل سلطات واشنطن التمسك بثبات بسياستها المعلنة فيما يتعلق بحل الدولتين وبقية المسائل الأخرى.
ولا يوجد أي سياسي إسرائيلي من التيار الرئيسي - وبالتأكيد ليس رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته المشكلة من المتطرفين - على استعداد للتفكير في هذه الفكرة – أي مبدأ حل الدولتين.
وهذا ليس بالأمر المستغرب، لأن السياسة الخارجية الأمريكية كثيراً ما تتعارض مع المنطق السليم. فسلطات واشنطن، على سبيل المثال، تخوض حروباً خاسرة ببساطة لأنه لا توجد إدارة أو رئيس أمريكي يريد أن يكون الشخص المرتبط بالفشل أو التراجع أو الهزيمة، ولعل أطول حرب خاضتها أمريكا في أفغانستان تشكل مثالاً واضحاً على ذلك.
ونظراً إلى النفوذ الهائل الذي تمارسه إسرائيل وحلفاؤها في الكابيتول هيل حيث مقر الكونغرس الأمريكي، وكذلك في وسائل الإعلام، إلى جانب قوة جماعات الضغط والمانحين الأثرياء، فمن الواضح أن تل أبيب أكثر أهمية بكثير بالسياسات الداخلية الأمريكية من أفغانستان.
ومن هنا يأتي استمرار الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لدولة متهمة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
ولكن هذا الواقع خلق معضلة سياسية بالنسبة إلى أوروبا، التي كثيراً ما اتبعت بشكل أعمى خطوات الولايات المتحدة الأمريكية ــأو عثراتهاــ في منطقة الشرق الأوسط.
تاريخيا، كانت هناك استثناءات قليلة لقاعدة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد تحدى الرئيس الفرنسي جاك شيراك الإجماع الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية عندما رفض بشدة سياسات واشنطن في العراق في الفترة التي سبقت حرب عام 2003.
وفي نهاية المطاف، تم إصلاح هذه الشقوق المهمة، ولكن المعزولة نسبياً، حيث عادت الولايات المتحدة إلى ممارسة دورها كزعيم للغرب بلا منازع.
ومع ذلك، أصبحت غزة نقطة الانهيار الرئيسية. لقد انقسمت الوحدة الغربية الأولية الداعمة لإسرائيل، مباشرة بعد أحداث السابع من أكتوبر الماضي، مما أدى في نهاية المطاف إلى التزام الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى حد ما، ألمانيا، بدعم وتأييد الحرب الإسرائيلية.
إن المواقف القوية التي اتخذتها مؤخرا العديد من دول أوروبا الغربية والتي تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية وتوحيد الجهود مع دول الجنوب العالمي بهدف محاسبة إسرائيل، تمثل تحولًا كبيرًا لم يسبق له مثيل منذ سنوات عديدة.
ويمكن القول إن حجم الجرائم الإسرائيلية في غزة قد تجاوز العتبة الأخلاقية التي يمكن أن تتحملها بعض الدول الأوروبية. ولكن هناك المزيد.
يكمن الجواب الفعلي في مسألة الشرعية. ولا يخجل الزعماء الغربيون من صياغة لغتهم على هذا النحو. وفي مقال حديث، حذرت المتحدثة باسم «مجموعة الحكماء» رئيسة إيرلندا السابقة ماري روبنسون من «انهيار النظام الدولي».
قالت ماري روبنسون: «نحن نعارض أي محاولات لنزع الشرعية» عن عمل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، من خلال «التهديد باتخاذ إجراءات عقابية وفرض عقوبات».
لكن معارضة الحكماء لم تحدث أي فرق. ففي 5 يونيو2024، أصدر مجلس النواب الأمريكي القرار رقم H.R.8282 الذي يهدف إلى فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية.
كما أشار كثيرون آخرون في الأشهر الأخيرة إلى انهيار شرعية النظام الدولي الذي أسسه الغرب، بما في ذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش.
وفي بيانه بشأن طلب إصدار أوامر اعتقال بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين المتهمين، أشار كريم خان نفسه إلى هذه المسألة.
وبالنسبة إلى البعض في الغرب، فإن القضية لا تتعلق فقط بالإبادة الجماعية في غزة، بل يتعلق الأمر أيضاً بمستقبل الغرب نفسه.
لقد نجحت واشنطن لفترة طويلة، على الأقل في نظر حلفائها، في الحفاظ على التوازن بين المصالح الجماعية للغرب والاحترام الاسمي للمؤسسات الدولية.
ومن الواضح الآن أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الحفاظ على هذا التوازن، الأمر الذي اضطر بعض الدول الغربية إلى تبني مواقف سياسية مستقلة، والتي سوف تكون نتائجها المستقبلية ذات أهمية كبيرة.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك