كثيرة هي التداعيات التي رتبتها تهديدات الملاحة البحرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب سواء الاقتصادية أو الأمنية، فضلاً عما أثارته من تساؤلات حول سبل تطبيق قواعد القانون الدولي المنظمة لحرية الملاحة في تلك الممرات وفقاً لما تضمنته اتفاقية الأمم لمتحدة لقانون البحار عام 1982، إلا أنه في تقديري يوجد بعد آخر مهم للغاية سيكون أكثر تهديداً للملاحة البحرية في تلك الممرات وهو تسارع وتيرة التنافس الدولي المحتدم قرب تلك الممرات وهو ما تعبر عنه سواء القواعد العسكرية في المحيط الجيواستراتيجي لتلك الممرات، أو البعثات البحرية سواء المؤقتة أو الدائمة والتي تستهدف حماية الأمن البحري في تلك المنطقة.
ولكن قبيل الحديث عن تلك القضية تفصيلا ينبغي تأكيد أن تهديدات الملاحة البحرية من جانب الحوثيين في البحر الأحمر ومضيق باب المندب لم يكن منشأه لذلك الوجود العسكري الكثيف في تلك المنطقة ولكنها كانت كاشفة لمدى ذلك التنافس وتأثيره مستقبلاً، ففي تقرير لمعهد استكهولم للسلام صادر عام 2019 تضمن أن منطقة القرن الإفريقي بالمعنى الجغرافي والذي يضم أربع دول هي الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا تستضيف 19 قاعدة عسكرية تديرها 16 دولة على المستويين الإقليمي والعالمي بما يعنيه ذلك من أن هناك بعض الدول لديها أكثر من قاعدة، من ناحية ثانية أدى تهديد القرصنة قبالة القرن الإفريقي وسواحل الصومال عام 2008 إلى تعاون دولي لمواجهتها من جانب الدول الكبرى وكذلك منظمات مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وفقاً لقرارات أممية في هذا الشأن، إلا أن زيادة وتيرة تهديدات الأمن البحري منذ نهاية عام 2023 قد أدت إلى زيادة اهتمام القوى الكبرى مجدداً بحماية الأمن البحري ابتداءً بإعلان الولايات المتحدة تأسيس تحالف حارس الازدهار في ديسمبر 2023 ومروراً بقرار الصين إرسال المجموعة البحرية 46 في فبراير 2024 للمنطقة والتي تضم تجهيزات بحرية وحوالي 700 ضابط وجندي وانتهاءً بتجدد الحديث حول المفاوضات بين السودان وروسيا لتأسيس مركز دعم فني ولوجستي عسكري لروسيا في بورتوسودان على البحر الأحمر، ثم قرار الاتحاد الأوروبي إرسال بعثة بحرية للبحر الأحمر في فبراير 2024 ودون الخوض في المصالح المختلفة لتلك الدول والتي يجمعها أمر مهم مفاده أن البحر الأحمر وباب المندب ممران مائيان حيويان لاقتصادات تلك الدول وتوجد لديها مصلحة استراتيجية للإبقاء على حرية الملاحة فيهما إلا أنه من الصعب استبعاد ارتباط مسألة الملاحة وعلى نحو وثيق بالتنافس بين القوى الكبرى والتي لديها بالفعل استراتيجيات معلنة في هذا الشأن، فالولايات المتحدة الأمريكية التي أسست القوة البحرية المشتركة عام 2001 وتضم قوات عديدة يتم استحداثها وفقاً لطبيعة التحديات الأمنية في تلك المنطقة التي تمتد إلى ما يقرب من 3,2 أميال بحرية ترى وفقاً لاستراتيجيات الأمن القومي المعلنة أن القوى المنافسة تسعى إلى تغيير معادلة النظام الدولي الراهنة من مداخل مختلفة من بينها الوجود في نقاط ارتكاز لوجستية، أما روسيا فقد تضمنت العقيدة البحرية الروسية الصادرة في يوليو 2022 وحلت محل نظيرتها التي صدرت في عام 2015 أنه يجب تعزيز العلاقات مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المطلة على بحار مجاورة مثل البحر المتوسط والبحر الأحمر أو على مساحات بحرية بما يعني أنه يتعين على روسيا الوجود بحرياً في البحر الأحمر والمحيط الهندي بإقامة مراكز دعم لوجستي في هاتين المنطقتين، بينما تسعى الصين لتأمين كل المناطق ذات الصلة بمشروع مبادرة «الحزام والطريق» ومن بينها تأسيس قاعدة عسكرية للصين في جيبوتي، ومن جانبه فإن الاتحاد الأوروبي الذي تعد بعثته البحرية في البحر الأحمر هي الثالثة من نوعها في تلك المنطقة حيث كانت الأولى قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي عام 2008 والثانية في أبوظبي عام 2020 بقيادة فرنسا ودعم ثماني دول أوروبية فإن جهوده وإن كانت تتكامل مع الجهود الأمريكية ولكن تعدد تلك المبادرات الأوروبية تعكس حرصاً أوروبياً على ممارسة أوروبا دور مهم تجاه تهديدات الأمن البحري وخاصة أن حلف شمال الأطلسي «الناتو» أعلن سحب بعثته البحرية التي أرسلها قبالة القرن في عام 2016 والتي أرسلها عام 2008 وكان السبب المعلن هو أولويات في مناطق أخرى.
ومع أهمية تلك المؤشرات التي تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك اهتمام القوى الكبرى في العالم بحماية الممرات المائية الدولية والتي تعد شرايين التجارة الدولية وخاصة مضيق باب المندب الذي يستحوذ على 12% من إجمالي التجارة الدولية وحوالي 40% من التجارة بين آسيا وأوروبا فإن الجهود بها قدر من التنافس أكثر منها تكامل لارتباطها بمصالح استراتيجية تتجاوز نطاق الأمن البحري، فالبحر الأحمر وباب المندب نقاط التقاء مشروعات متنافسة منها مبادرة الحزام والطريق وممر الشرق الأوسط الاستراتيجي، كما أنهما نقاط التقاء التنافس الأمريكي الروسي على القارة الإفريقية، ناهيك عن التنافس الإقليمي ذاته في تلك المنطقة التي ليس بها نظام شامل للأمن الإقليمي وإنما نظم فرعية منها تجمع الدول المطلة على البحر الأحمر الذي تأسس بمبادرة سعودية عام 2020 ويضم 7 دول أخرى إلى جانب المملكة، ومدونة جيبوتي المعدلة لسلوك مكافحة أعمال القرصنة والسطو المسلح غرب المحيط الهندي وخليج عدن والتي تأسست عام 2009 وتم تعديلها مرات لاحقة.
وبالتالي فإن النتيجة الحتمية لذلك هي مزيد من التنافس وعسكرة ذلك التنافس بالقرب من الممرات المائية الدولية وهو ما يرتب خمس نتائج أولها: صعوبة تطور أطر الأمن الإقليمي والتي يستهدف بعضها الحفاظ على الأمن البحري لأن تعدد الأطراف الخارجية يعني تعدد رؤى مواجهة تلك التهديدات، وثانيها: كيفية إدارة ذلك الوجود، صحيح أن هناك مناطق أخرى أعلنت تفعيل منع الاشتباك جواً وبحراً ولكن بافتراض نجاح ذلك حتى الآن في تلك المنطقة فإن وقوع تصادم أمر محتمل وهو ما قد يرتب حدوث صراع أكبر، وثالثها: زيادة حدة الاستقطاب لأن مضامين استراتيجيات الأمن القومي تعكس أمراً مهماً مؤداه توظيف مناطق الالتماس الاستراتيجي ومن بينها التي تقع فيها تلك الممرات في ذلك الصراع، ورابعها: دخول الجماعات دون الدول على خط الصراع في تلك المناطق لأنها تضم دولاً بعضها تشهد صراعات بما يؤثر في قدراتها البحرية للحفاظ على الأمن البحري وبالتالي فإن مخاطر القرصنة تنذر بالعودة مجدداً وربما بشكل أكثر حدة، وأخيراً إثارة الجدل حول سبل تطبيق قوانين البحار التي ارتضتها دول العالم في ظل ذلك التنافس الدولي المحتدم قرب الممرات المائية الدولية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك