سياسات الإنسان في المجالات البيئية الصحية تغيرت وتطورت مع الزمن ومع تجاربه وخبراته العقيمة مع التلوث، كما أن أسلوب تعامل الإنسان وإدارته للملوثات تقدمت كثيراً مع تطور نضوج فكره وانكشاف حقائق جديدة متعلقة بأضرار الملوثات على البيئة والحياة الفطرية من جهة، ومن جهة أخرى تأثيرات هذه الملوثات الحادة والمزمنة على الصحة العامة للبشر وإصابته بالأمراض المزمنة المستعصية على العلاج.
فقبل أكثر من قرنٍ من الزمان كان الإنسان يجهل حقائق كثيرة متعلقة بهوية الملوثات، وبكيفية تصرفها عند دخولها في مكونات البيئة، وما هو مصيرها النهائي بعد أن تمكث في الماء، والهواء، أو التربة فترة من الزمن، وهل تنتقل عبر الأوساط البيئية المختلفة فتصل إلى الإنسان؟
فجهله بهذه الحقائق والثوابت البيئية جعله يسمح بالملوثات في الانطلاق إلى كل عناصر البيئة دون أي قيد أو نظام يقنن حجمها ونوعها، فكان يعتمد كلياً على ظاهرة أن عناصر البيئة واسعة وكبيرة، وبقدرتها تحمل هذه الملوثات من خلال عملية «طبيعية» تتمثل في تخفيف وتمييع تركيزها مع الزمن، ثم انتهاء تأثيرها وأضرارها يوماً بعد يوم. وهذه الظاهرة الطبيعية صحيحة إلى حدٍ ما، ولكن مع ارتفاع عدد مصادر التلوث في كل بقعة من كوكبنا، وازدياد حجم ونوعية التلوث، أصبحت مكونات البيئة غير قادرة على تخفيف تركيز الملوثات، بل وتحولت إلى حالة التشبع بها، ثم انتقلت إلى حالة ما فوق التشبع، مما اضطر الإنسان إلى تغيير سياسته المدمرة للحرث والنسل.
فتحول الإنسان إلى سياسة المعالجة، أي التحكم في الملوثات ومعالجتها قبل انطلاقها إلى البيئة من خلال أجهزة التحكم والمعالجة، ولكن هذه السياسة الجديدة لم تجد نفعا، ولم تحل تبعات وجود الملوثات في بيئتنا من جذورها، ولم تنجح في استئصالها من أجسادنا وتجنيبنا الأمراض الناجمة عن التلوث.
ولذلك اضطر الإنسان إلى التفكير في استراتيجية جديدة للتعامل مع الملوثات وإدارتها بأسلوب مستدام، فاتجه نحو الحكمة الصحية القائلة: «الوقاية خير من العلاج»، أي أن منع المرض ومنع مصادر المرض خير وأجدى صحياً واقتصادياً وبيئياً من علاجه بعد أن ينزل على الإنسان. فتبنى الإنسان سياسة «المنع»، أي منع الملوثات كلياً من السماح لها في الولوج في عناصر بيئتنا من خلال الإدارة المستدامة لجميع مصادر الملوثات، سواء أكانت المصادر المتنقلة كالسيارات، والطائرات، والبواخر، أو المصادر الثابتة، كالمصانع، ومحطات توليد الكهرباء. فهذه السياسة اعتبرتْ الآن الحل العملي الواقعي، وليست الأمثل لدرء خطر وباء التلوث ومنع انتشار الأمراض الناجمة عن التعرض للملوثات، وهذه الاستراتيجية في إدارة التلوث هي آخر ما توصل إليه عقل الإنسان للوقاية من تهديدات الملوثات.
وهناك العديد من الأمثلة التي أستطيعُ تقديمها لتوضيح هذه السياسة البيئية الصحية العامة التي تبنتها منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة، وتطبقها بعض دول العالم.
أما بالنسبة إلى المصادر المتنقلة للتلوث، وعلى رأس قائمة السيارات، فقد تبنى الإنسان عدة أدوات ووسائل لمعالجة التلوث الناجم عن عوادمها. ففي السنوات الأولى من عمر السيارات قام بتحسين نوعية الوقود المستخدم فيها حتى يُخفض من نوع وحجم الملوثات الناجمة عن حرق الوقود فيجعلها أقل ضرراً على البيئة والإنسان والحياة الفطرية، فقام بإزالة مركبات الرصاص التي كانت تُضاف إلى الوقود لتحسين أداء المحرك، ثم زاد من مركبات الأكسجين في الوقود. وفي الوقت نفسه تم وضع أجهزة معالجة وتحكم في مؤخرة عادم السيارة، وهي تقوم بتحويل الملوثات السامة والخطرة إلى مواد أقل خطورة وأقل سمية، أو في بعض الحالات غير سامة. وأخيراً فكر الإنسان في تغيير نوعية الوقود كلياً فتحول أولاً إلى الغاز الطبيعي، والهيدروجين، ثم الآن يتوجه إلى تعميم السيارات الكهربائية التي لا تنبعث عنها من المصدر نفسه أية ملوثات، أي السيارات التي تعمل بالبطاريات وليس بعملية حرق الوقود، فتَمْنع انطلاق أية ملوثات. وفي هذه الحالة الأخيرة تبنى الإنسان سياسة الوقاية ومنع التلوث من مصدره، وهي السياسة الأفضل والأكثر استدامة بيئياً وصحياً.
وفي المقابل هناك المصادر الثابتة للتلوث، وفي مقدمتها محطات توليد الكهرباء والطاقة عامة. وفي هذه الحالة فقد لعبتْ عدة اعتبارات دوراً في إدارة الملوثات الناجمة، منها الجانب العملي والواقعي، من ناحية الوقود المتوافر في البلد، ومنها الجانب الاقتصادي من ناحية سعر الوقود وسهولة الحصول عليه وبأرخص الأثمان، ومنها أخيراً الجانب البيئي الصحي. ولكي أكون واقعياً وصادقاً، فإن الجانب البيئي يقع في مؤخرة قائمة الأولويات لاختيار الوقود المستعمل لتوليد الطاقة، أي عند الاختيار يتم تفضيل الجانب العملي والاقتصادي على الجوانب الأخرى، كالبيئة والصحة العامة.
فعلى سبيل المثال، الدول التي لديها مخزون كبير من الفحم في باطن أرضها، لن تُؤْثر مصادر الطاقة الأخرى غير الموجودة عندها في الفحم، حتى ولو كانت هذه المصادر أكثر نظافة بيئياً، وأقل تلويثاً لمكونات البيئة، وأخف تدميراً للصحة العامة. ولذلك بالرغم من سلبيات استخدام الفحم في تشغيل مصانع توليد الكهرباء، وبخاصة في بروز مشكلة العصر، وهي التغير المناخي التي تؤثر في الكرة الأرضية برمتها، إلا أن كل الدول التي لديها وفرة من الفحم، أو التي تشتري الفحم بأسعار زهيدة، لا تتردد في استخدامه، حتى بعد دعوة المجتمع الدولي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ممثلاً في منظمات الأمم المتحدة إلى مقاطعة الفحم كمصدر للطاقة والوقود. فحرق الوقود الأحفوري، وبخاصة الفحم يُعد السبب الرئيس في وقوع مشكلة التغير المناخي على كوكبنا وارتفاع حرارة الأرض وسخونتها، وما يصاحب هذا التغيير من تداعيات على الأرض والإنسان والحياة الفطرية. ولذلك فالسياسة التي تتبعها الدول هي تنظيف الفحم ومعالجته قبل حرقه وإزالة الكبريت والشوائب الأخرى منه، ثم وضع أجهزة للتحكم ومعالجة الملوثات قبل انبعاثها إلى الهواء الجوي، أي أنها تتبع سياسة «المعالجة»، وليست سياسة الوقاية والمنع. وفي الوقت نفسه تسعى هذه الدول إلى استخدام مصادر بديلة للطاقة المتجددة والنظيفة لدعم وقود الفحم، مثل الغاز الطبيعي كمصدر أفضل بيئياً وصحياً من الفحم، إضافة إلى الطاقة النووية، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة الماء عن طريق بناء السدود.
ولذلك نجد أنه بالرغم من أن سياسة الوقاية ومنع انبعاث الملوثات من مصادرها تُعد السياسة الأكثر استدامة والأكثر جدوى من الناحية البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هناك بعض الدول التي مازالت تتبع سياسة المعالجة والتحكم في الملوثات لأنها بالنسبة إليها أكثر عملية وواقعية، وتُعد بالنسبة إليهم الاختيار الأنسب اقتصاديا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك