من غرائب الأمور التي يشهدها عالم اليوم، والذي يبدو فقد العقلانية، الدعوة إلى عقد مؤتمر سلام في سويسرا موضوعه الحرب الروسية الأوكرانية استنادا إلى ورقة قدمها الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته في 21 مايو الماضي فلاديمير زيلينسكي، وذلك من دون دعوة الطرف الثاني في الصراع وهو روسيا الاتحادية، وهذا أمر غريب، بل مدهش لم يشبه له مثيل في تاريخ المفاوضات السلمية، حيث تتم دعوة طرف واحد ويهمل الطرف الثاني الرئيسي في المواجهة بما يعني فشل هذا المؤتمر جملة وتفصيلا ومقدما قبل انعقاده في منتصف الشهر الحالي وذلك لثلاثة أسباب:
الأول: إن مقدم هذه الورقة «السلمية» هو الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي انتهت ولايته وإنه فاقد للشرعية وبالتالي لا يمثل قانونيا ودستوريا الشعب الأوكراني وهذه معضلة كبيرة حتى ولو افترضنا أن هذا المؤتمر قد تخرج عنه قرارات ومقترحات سلمية لأن أي شخص أو مواطن في أوكرانيا يمكن أن يطعن في ذلك وفي شرعية هذه التوصيات أو المقترحات التي ينتظر أن يختتم بها هذا المؤتمر أعماله.
فموضوع الشرعية السياسية والدستورية إضافة إلى الإشكاليات الأخرى المتعقلة بهذا الصراع وهو أمر بالغ الأهمية وبالغ الخطورة لأن من يمثل أوكرانيا في هذا المؤتمر يجب أن يكون متمتعا بشرعية دستورية وهذه نقطة استفهام كبيرة إلى درجة أن الطرف الروسي يؤكد أن إصرار زيلينسكي على عقد هذا المؤتمر ومناشدته رؤساء الدول الكبرى في العالم بالحضور يستهدف في الحقيقة الحصول على شرعية سياسية يفتقدها طالما أنه ألغى الانتخابات التي تفترض ان تعيده إلى السلطة أو تأتي برئيس آخر بشكل ديمقراطي.
الثاني: وهو الأكثر إشكالية هي عدم دعوة روسيا الاتحادية لهذا المؤتمر بما يجعل الحاضرين وهم ممثلو حوالي 50 دولة في العالم أي ربع دول العالم في حين أن بقية دول العالم لم تستجب إلى هذه الدعوة وذلك لقناعتها الأكيدة بأنه لا يمكن عقد مؤتمر سلام بدون حضور طرفي الصراع مما يجعل هذا الاجتماع مجرد عملية استعراضية والدليل على ذلك أن وزير خارجية سويسرا نفسها الدولة المنظمة للمؤتمر قد أشار في إحدى تصريحاته إلى أنه لا يمكن أن يكون هذا المؤتمر مفيدا من دون حضور الطرف الروسي، ولذلك فإن التوقعات من هذا المؤتمر تظل ضئيلة.
الثالث: إن المشروع السلمي الحقيقي موجود بالفعل وتم التفاوض بشأنه بشكل مطول وذلك في شهر أبريل من عام 2022 بين طرفي الصراع في جولات متعددة برعاية تركية بل أكثر من ذلك أن هذا الاتفاق الذي تضمن العديد من النقاط التفصيلية قد وافقت عليها روسيا الاتحادية ووافقت عليها جمهورية أوكرانيا بشكل كامل ولم يبق إلا التوقيع عليه بشكل نهائي ولذلك فإن روسيا ما فتئت تدعو إلى السلام والمفاوضات استنادا إلى هذه الورقة التي لو كانت أوكرانيا وافقت عليها في ذلك الوقت لكانت الحرب انتهت خلال أيام ولما قتل من الأوكرانيين نصف مليون شخص وقتل من الروسي أكثر من 100 ألف شخص، إضافة إلى الخسائر المالية الهائلة والخسائر الاقتصادية الضخمة وخاصة أن هذه الحرب قد حولت أوكرانيا الدولة الغنية والقوية إلى دولة مهدمة تعيش على صدقات الدول الأوروبية ومعوناتها التي من دونها تسقط الدولة الأوكرانية سقوطا كاملا.
إن الغرب أو ما يسميه الروس الغرب الجماعي الذي يشمل دول الناتو ودولا أخرى مثل استراليا وكوريا الجنوبية واليابان قد ورطوا أوكرانيا عندما أعطوها اعتقادا بأنها قادرة على هزيمة روسيا الاتحادية وبأنها يمكن أن تتحول إلى دولة عظمى وأن تؤدي الحرب إلى بروزها على الساحة الدولية ودخولها إلى الناتو والاتحاد الأوروبي كجائزة على محاربتها لروسيا وها هي أوكرانيا اليوم تعيش أسوأ كابوس لها منذ عام 1991 وحتى اليوم في حين كان بإمكانها أن تنهي هذا الصراع بأقل الخسائر وأن تستفيد من علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية مع روسيا الاتحادية كدولتين شقيقتين بينهما تاريخ مشترك وعلاقات اجتماعية عميقة تعود إلى قرون من الزمان ولذلك فإن الورطة الأوكرانية جاءت من الضغط الغربي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي أصرت على استمرار هذه الحرب العبثة التي يخسر فيها الطرفان وقد لا تنتهي بشكل نهائي إلا باللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل لا قدر الله.
انطلاقا مما تقدم فإن المؤتمر المشار إليه لن يكون لحظة تاريخية يؤمل منه تحقيق السلام، بل سيكون مجرد مؤتمر استعراض إعلامي غير قابل للتسويق طالما أن الطرف الثاني في الحرب غير موجود، اللهم إذا كان الهدف منه هو المزيد من الدعم لأوكرانيا لمواصلة الحرب وهذا يجعل أغلب دول العالم تتحفظ على المشاركة في هذا المؤتمر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك