يُتداول كثيرا الحديث عن فشل استراتيجية الولايات المتحدة في السياسة الخارجية، وقد أضافت ردود فعل إدارة بايدن على الحرب في غزة مزيدا من هذه الانتقادات. وأدت الحرب الإسرائيلية على القطاع -منذ أكتوبر2023 وحتى الآن- والتي شملت قصفا مكثفا، وغزوا بريا إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، وتدمير واسع النطاق بتكلفة مادية قدرتها الأمم المتحدة، بأكثر من 40 مليار دولار، مع توقعات بأن إعادة الإعمار ستستغرق ما لا يقل عن 16 عامًا. وأشار جون هوفمان، من معهد كاتو، إلى أن واشنطن، ما زالت تتبع قواعد اللعبة القديمة في التعامل مع الأزمات، عبر تقديم الأموال والأسلحة والمساعدات العسكرية لإسرائيل، وهو نهج يأتي في وقت تواجه فيه الأخيرة اتهامات بارتكاب جرائم حرب، منظورة أمام كل من محكمتي العدل الدولية، والجنائية الدولية، مما يثير تساؤلات حول توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، ومدى انحرافها عن أهدافها المعلنة.
ومثّل انهيار الرصيف العائم، الذي أنشأه الجيش الأمريكي (البحرية الأمريكية)؛ لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، بغرض تجاوز رفض قوات الاحتلال السماح بدخول الإمدادات إلى القطاع عبر البر؛ إحراجا بالغا آخر للحكومة الأمريكية. وتماشيا مع تاريخ من الانتكاسات في المنطقة خلال العِقدين الماضيين، أوضح ستيفن والت، في مجلة فورين بوليسي، أن هذا دلالة على مشكلة أكبر داخل مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية؛ وهي عدم الكفاءة.
وفي إطار تقييمه للإخفاقات الاستراتيجية الأمريكية، أشار ستيفن كوك، من مجلس العلاقات الخارجية، في مقال بعنوان نهاية الطموح.. ماضي أمريكا وحاضرها ومستقبلها في الشرق الأوسط، إلى أن واشنطن بحاجة إلى إيجاد هدف جديد في الشرق الأوسط، يتطلب من صناع القرار التخلي عن الطرق الحالمة لإعادة تشكيل المنطقة، وكذلك سياسة التخندق، التي دأبت عليها الإدارات المتعاقبة في ظل سأمها من التعامل مع المنطقة.
واعترف المعلقون الغربيون بأن سوء إدارة بايدن للحرب الإسرائيلية على غزة، يضاف إلى تاريخ طويل من الإخفاقات الاستراتيجية التي قوضت الأمن الإقليمي، وولدت حالة عدم الاستقرار. وأوضح هوفمان، أن الحرب تجسد العنف الذي ارتكبته القيم الأمريكية المعلنة، فضلًا عن تعرض المصالح الأمريكية للخطر، وأن صورة أمريكا العالمية قد شوهت بشكل دائم؛ بسبب دعمها لهذه الحرب.
واعتبر والت، رصيف المساعدات الإنسانية كناية مناسبة، عن فشل الولايات المتحدة، مع عملية علاقات عامة باهظة الثمن، تم تنفيذها مباشرة لأن واشنطن رفضت إجبار إسرائيل على فتح الحدود بالكامل، وإرسال المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها. وفي هذه الحالة، بعد أن سلمت ما يقرب من 60 حمولة شاحنة فقط من الإمدادات قبل أن تلحق الأمواج الهائجة أضرارًا بهيكل الرصيف -الذي بلغت كلفته بالفعل مئات الملايين من الدولارات- وصف جيري هندريكس، العقيد المتقاعد في البحرية الأمريكية، هذا المشروع بأنه فاشل، مع حثه البيت الأبيض على التخلي عنه فورا.
وفي تقييم كوك، تُشير انتكاسات الولايات المتحدة، خلال حرب غزة إلى الطموحات التي غذت الأوهام في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، مشيرا إلى كيف تغيرت حظوظ سياستها الخارجية بشكل كبير، بعد الإدارة الناجحة للشؤون الإقليمية خلال الحرب الباردة، بعد هزيمة غزو صدام حسين للكويت في 1991، وانهيار الاتحاد السوفيتي ذات العام. في مقابل أن انتخاب بيل كلينتون، عام 1992 قد أدى إلى سعي مؤسسة السياسة الخارجية إلى تحويل السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، من خلال ما أسماه أجندة مفرطة الطموح، والتي أدت إلى إخفاقات سياسية، مثل غزو العراق عام 2003، والذي تم شنه تحت اعتقاد قدرة قوتها على إعادة تشكيل الداخل العراقي إلى مجتمع ديمقراطي، وبالتالي ضمان أمن واشنطن، ولكنه بدلاً من ذلك ترك البلاد ممزقة.
ووافق والت، على ما أسهم فيه الطموح المفرط من وقوع أخطاء جسيمة، وأضاف أن المزيج غير العادي من القوة والإفلات من العقاب، الذي تمتلكه واشنطن في الشؤون الدولية، قد سمح أيضًا لرؤسائها باتخاذ كافة أنواع القرارات الحمقاء، ثم ترك الدول الأخرى تعاني وحدها من معظم العواقب. ومن خلال تسليط الضوء على وجهة نظر سائدة في الولايات المتحدة، مفادها أنه يمكنها تحقيق أي أهداف تحددها إذا بذلت ما يكفي من الجهد؛ ذكر الباحث أنه في سعيها عن المصداقية والنفوذ، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، تجاهل صناع السياسات فيها المعيار الرئيسي، الأكثر أهمية في السياسة الخارجية، ألا وهو الكفاءة.
وتدعيما لرأيه بأن المؤسسات الضالعة بشؤون الخارجية الأمريكية، مثل وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، ليست مؤهلة جدًا، لتحقيق المصالح الأمريكية العظمى في الشرق الأوسط، أكد والت، على تداعيات إيثار الرؤساء لـ الولاء أكثر من تقديرهم للكفاءة، مع نتيجة متوقعة بميل عملهم إلى الفشل.
وفي حالة حرب غزة، فشل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، فشلاً ذريعًا في التأثير على إسرائيل لوقف حربها وهجماتها ضد المدنيين الفلسطينيين، على الرغم من زياراته المتعددة إلى الشرق الأوسط أثناء الحرب، كما أنه لم يستطع طمأنة شركائه في المنطقة بشأن خارطة الطريق التي وضعتها إدارته للسلام. وأرجع والت، هذا الفشل إلى حقيقة أن هناك تبديلاً هائلاً في موظفي السياسة الخارجية؛ بسبب نظام إدارتهم؛ حيث إن واشنطن تحاول إدارة العالم كله باستخدام أطقم عمل دائم التغير، بدءًا من مسؤولين يعملون لفترة مؤقتة وقصيرة، وآخرين يعملون كـهواة غير مؤهلين.
وبالنظر إلى الكيفية التي قُوضت بها المصداقية الأمريكية في الشرق الأوسط؛ بسبب دعمها المستمر لإسرائيل، وعدم قدرتها على إعادة إرساء قواعد الاستقرار الإقليمي؛ أكد كوك، على ضرورة اتباع نهج سياسي جديد، لأسباب ليس أقلها أن مواكبة التطورات الإقليمية، تظل أمرا من أولويات الولايات المتحدة القصوى، ولكن لأن طبيعة المصالح ستتغير بمرور الوقت جراء مجموعة من الأسباب الاقتصادية والثقافية والسياسية والتكنولوجية، سواء كانت تلك المصالح تتعلق بسبل مكافحة الإرهاب، أو منع الانتشار النووي، أو العمل المناخي.
وفي تقييم للسبل التي يمكن من خلالها أن يتغير بها النهج الاستراتيجي الأمريكي تجاه المنطقة؛ رفض كوك، الحجج الداعية إلى الانسحاب الكامل، أو تقليص التمركز في المنطقة. وبسبب سلسلة إخفاقاتها خلال العِقدين الماضيين، أشار إلى أن الاندفاع القوي والمبرر داخل مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية - بما في ذلك بين المسؤولين في إدارة بايدن– نحو الانسحاب، يعتبر خطوة جذرية لحل المعضلات التي تواجهها واشنطن في الشرق الأوسط حاليا، ولكنها في النهاية ستكون خطوة لها نتائج عكسية، ولا تضمن جعل المنطقة أكثر استقرارا بأي حال من الأحوال.
وفي حالة تقليص التواجد الأمريكي، أوضح أن هذا قد ساهم في نشوء العواقب المدمرة للحرب الأهلية في سوريا، وتحديدًا حدوث واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية عالميا؛ لأن الولايات المتحدة لم تتحرك، لا سيما مع إقرار باراك أوباما، أنه لا توجد مصلحة أمريكية واضحة يمكن تحقيقها من خلال اتخاذ موقف أكثر قوة ضد النظام السوري. وفيما يتعلق بفكرة ما يسمى بـالتوازن الخارجي، والتي تنطوي على قيام الولايات المتحدة بسحب وجودها العسكري، لصالح تعزيز دعمها لحلفائها وشركائها في المنطقة من خلال إتاحة الأسلحة لتمكنهم من الدفاع عن أنفسهم وحدهم، أشار كوك، إلى العديد من أوجه القصور الأخرى في الاستراتيجية الأمريكية من بينها تبعات مبدأ نيكسون، الذي يتعهد بتوفير كل ما يطلبه الشاه من السلاح والحماية إذا ما تعرض للخطر، خلال السبعينيات التي ألقت بظلالها على الثورة الإيرانية 1979.
كما أثار الباحث أيضا فكرة تأثير اختلاف التفسيرات المتعلقة بالتوازن الإقليمي. وينظر شركاء واشنطن في الشرق الأوسط إلى أن توازن القوى الإقليمي يخدم بشكل خطير إيران؛ بسبب استخدامها للعديد من الوكلاء، والصواريخ الباليستية، وتطوير الأسلحة النووية. وبالتالي، يريدون من الولايات المتحدة أن تكون أكثر انخراطا في ردع واحتواء نفوذ طهران، في حين يؤكد صناع القرار الأمريكيون أن المستوى الحالي من المساعدة المقدمة لشركائهم لا يحتاج إلى أدنى تغيير.
ومع خيارات الانسحاب الكامل، وتقليص التواجد، والتوازن الخارجي، التي رفضها كوك، باعتبارها خيارات طويلة الأجل، فقد أوصى بدلاً من ذلك، بأن يتحلى صناع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية بالحكمة، والحذر، والتوازن، والكفاءة، بطريقة أقرب إلى تبني السياسة التحوطية؛ موضحا أن تلك الطريقة تجبر واشنطن على أن ترى العالم كما هو، وليس كما تريد أن يكون. وعليه، أكد أن مثل هذه العقلية سوف تحمي من أسلوب تحول الدوافع، التي لطالما قوضت علاقات الولايات المتحدة مع المنطقة على مدى العقود الماضية، بالإضافة إلى عدم إلحاق أي قدر ممكن من الضرر بمصالحها في الشرق الأوسط.
ومع دعوته إلى رفض الرومانسية المثالية، التي تغلب على النزعة الأمريكية، والتي لديها افتراض أن العالم كله سوف ينهار إذا لم تحاول بشكل فعال إدارة عشرات الأزمات حول العالم؛ يرى والت، أن إصلاح آلية السياسة الخارجية الأمريكية المليئة بالأخطاء، سوف يستغرق وقتاً طويلاً، إذا كان ذلك ممكنا في الوقت الراهن، موضحا أيضًا أن السياسة الخارجية الأكثر تقييدًا، التي تقلل من عدد القضايا والمعضلات والالتزامات التي تشعر واشنطن بأنها ملزمة بحلها؛ من شأنها أن تقلل من معدل فشلها، في إدارة ملفات الشرق الأوسط.
وتستند تحليلات كوك، ووالت، إلى ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بأهميتها كوسيط دبلوماسي في الشرق الأوسط، ولكن إذا أرادت ذلك فعليها إدراك أولا بأن غزو العراق في عام 2003 قد أرسى بالفعل عنصر عدم الثقة في نواياها، كما أن تصرفات إدارة بايدن، خلال الحرب في غزة، ودعمها لإسرائيل وحمايتها من المساءلة الدولية، اعترف بها المراقبون الغربيون على أنها تسببت في ضرر جسيم لمصداقيتها وموثوقيتها.
على العموم، من الواضح أن إحداث تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط سوف يشكل تحديا كبيرا. وجاءت دعوة كوك، لصانعي السياسات ما بين التخلي عن طموحاتهم الخيالية لتحويل المنطقة، بما يتفق مع رغباتهم الخاصة من ناحية، أو الانسحاب الكامل من المنطقة من ناحية أخرى؛ أمر يتناقض مع الرؤية الاستراتيجية الأمريكية السائدة. ويتفق العديد من صناع السياسات مع هال براندز، من جامعة جونز هوبكنز، على أن الدور السياسي والعسكري الأمريكي المستمر في الشؤون الإقليمية هو ببساطة عبء على كاهل تلك القوة المهيمنة، التي تفضل أن تحتفظ بهذا الدور، بدلاً من أي من منافسيها الجيوسياسيين.
ومع ذلك، يرى والت، أنه بعد عقود من الانتكاسات التي أضرت بسجل السياسة الخارجية الأمريكية على المدى القصير والمتوسط والطويل، يمكن مساعدتها من خلال تجنب المسؤولين عنها تبني مُثُل نبيلة متشعبة، وبدلاً من ذلك عليهم تحديد أهداف واقعية، وهو الأمر الذي سيكون أكثر قابلية للتحقيق، وبالتالي يفضي إلى استقرار إقليمي أوسع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك