تطرقنا في المقالات السابقة حول قمة البحرين إلى أهمية المقاربة الشمولية ذات الأبعاد الأربعة (سياسية اقتصادية اجتماعية فكرية) في معالجة القضايا العربية منها التكامل الاقتصادي، وذلك لخلق نوع من الاتحاد العربي يوحد كلمة الامة ويحفظ حقوقها ومكانتها. تحدث المقال السابق «أخبار الخليج 6 يونيو» حول التكامل العربي كغاية ووسيلة لإحداث التقارب العربي.
يقول تقرير لمنظمة الاسكوا الصادر في 2014 «إن السبيل الوحيد لتحقيق النهضة العربية هو امتلاك مقوماتها من إرادة مسـتقلة، وعلم مبدع، وقـدرة فعلية للابتكار والإنتاج، وحياة اجتماعية وسياسية دائمة التجديد والتجدّد والتفاعل مع الواقع ونبذ الجمود الفكري، ونضيف إعادة دراسة تراثنا والبناء على ما به من ثروة فكرية وتسامح والتمسك بقيمها الإنسانية والإسلامية واحترام فردية الإنسان وعقله وحقوقه. والتكامل الاقتصادي هو أحد وسائل امتلاك هذه المقومـات لتصبح بـها الأمة قادرة على اسـتئناف دورها التاريخي في الحضارة الإنسـانية.
واجه التكامل العربي تحديات كثيرة منها ما هو سياسي ومنها ما هو مؤسسي وثقافي وفكري، اتسمت التحديات بضعف الاستعداد القطري للتنازلات والالتزام بقرارات القمة أو الجهات المنظمة. السؤال الملح، إلى متى ستظل الأمة العربية تتحدث عن نهضة تنموية دون تفعيل هذا الحلم؟ فمثلا في بغداد «7-6-2001» تقرر استكمال مشاريع التكامل خلال الفترة من 2000 إلى 2020، لكن ما تحقق كان يسيرا.
مؤخرا رأى اتحاد الغرف العربية أهمية تعزيز التعاون المشترك لرفع فعالية التعامل مع التكتلات الاقتصادية الأخرى وخرجت بتوصيات رُفعت إلى قيادات الدول العربية «تحت مسمى إعلان البحرين للقطاع الخاص العربي». أهم ما ورد في الإعلان مضاعفة الجهود لتحقيق التكامل الاقتصادي و«الاجتماعي» العربي، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول العربية لتحقيق مجتمع أكثر عدالة ومساواة. بينت الغرف ضرورة «دعم شبكات الأمن الاجتماعي» لتدارك تداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية على المجتمعات العربية، وخصوصا الفئات الضعيفة فيها، إضافة ولفتة مهمة من غرف التجارة تتجاوز الجانب الاقتصادي إلى أهمية تقدم المجتمعات العربية. وقد طالب رئيس الاتحاد (خالد حنفي) الاستفادة من ترؤس مملكة البحرين الدورة الحالية. وفي السياق ذاته تطرقت القمة العربية إلى وضع استراتيجية عربية للتحول الرقمي والاقتصاد الدائري والتشاركي وتطوير البنية التحتية الرقمية التشريعية والتكنولوجية، وكذلك البنى التحتية من مواصلات واتصالات والطاقة المتجددة، واعتماد سياسة عربية مشتركة للتعليم تتوافق مع متطلبات العصر والسوق.
من التوصيات المشجعة التي اعتمدتها غرف التجارة العربية، اعتماد سياسة عربية مشتركة لإصلاح مناهج التعليم ومخرجاتها وما يتناسب مع سيادة العقلانية والفكر النقدي، استراتيجية للتحول الرقمي والاقتصاد الدائر التشاركي، والاستثمار في البنى التحتية لتحسين المواصلات والاتصالات البينية، ومشاريع للأمن الغذائي والزراعة الحديثة. من حيث الإجراءات فقد أوصت الغرف التجارية بوضع استراتيجية واقعية متدرجة بجدول زمني لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي.
هذه توصيات طموحة، غير أن تطبيقها سوف يعتمد على قضايا أخرى وخلافات مستعصية أخرت كثيرا من المشاريع العربية المشتركة، لذلك فإن التوصية الأهم هي تغيير التوجه الفكري العربي من أولوية السياسة لفرض الأمن إلى أولوية التنمية لتحقيق الأمن. فالأمن يتحقق تلقائيا من خلال تنمية للجميع ومحاربة الفساد والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، والضمان الاجتماعي وتطوير المسار الديمقراطي وتقبل الاختلاف على أنه ظاهرة طبيعية تضمن حق السؤال والمساءلة.
ما هو غير مفهوم في الرؤية أنها تطالب القطاع الخاص باتخاذ مبادرات لبناء قدرات بحثية علمية. التطور العلمي يقوم على أبحاث اساسية يستفيد منها القطاع الخاص ويبني عليها أبحاث تطبيقية، أما القطاع الخاص فهو غير مؤهل للقيام بمشاريع إنتاج المعرفة الأساسية، فهي مسؤولية الحكومات كما هو الحال في الدول المتقدمة معرفيا والتي نتج عنها الثورة التكنولوجية الحالية. ولولا الإنفاق الحكومي لما كان لدينا الإنترنت والهواتف الذكية وغيرها من الاختراعات التي اعتمدت على إنتاج مراكز الأبحاث الحكومية الغربية، والأمريكية خاصة.
تعَرَّض الوطن العربي إلى خسائر اجتماعية واقتصادية جراء سوء الإدارة الاقتصادية والصراعات الخارجية والداخلية التي فرضت وتفرض ميزانيات عسكرية وأمنية ضخمة، لذلك فإن التكامل ضرورة للاستفادة من الموارد المالية والبشرية تقود إلى نمو اقتصادي تشاركي وتقدم مجتمعي معرفي في المنطقة. هذا التوجه يجعل التكامل العربي غاية مهمة لتحقيق التنمية وفي الوقت نفسه وسيلة لتحقيق نهضة إنسانية تقلل وتعالج الخلافات والنزاعات الأيديولوجية والسياسية البينية، وتحقق تقدما فكريا وثقافيا ومعرفيا يقوم على التعددية وقبول الاختلاف، يملك العرب من خلالها ناصية الإبداع والابتكار كما حدث في صدر الحضارة الإسلامية العربية.
التكامل هذا يحتاج إلى أن تأخذ إحدى الدول العربية دور القيادة وتضع رؤية استراتيجية موحدة (تصور مشترك كما وصفها أحد المشاركين في قمة البحرين) تحفز الدول والمجتمعات للعمل والسير في طريقها وتوطيد الأمن والاستقرار في المنطقة. ثانيا كلما اهتمت الدول بمستقبلها وأعطت وزنا أكبر لمكاسب المستقبل على الحاضر وقدمت مصلحة المجتمع، كلما كان إمكانية التكامل أكبر فيما بينها. ثالثا (وفق الأسكوا 2014) تخليص الموارد المادية العربية من الاستغلال والتبعية الأجنبية ورفع قدرته على التفاعل كشريك متساو مع مراكز القوى في الاقتصاد العالمي، من ناحية أخرى. من الأهداف الاستراتيجية التي تُطرح في هذا السياق ضرورة تنمية وتطوير القوى البشرية والقوى العاملة في الوطن العربي وضمان حريتها في الحركة وفقاً لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، وتقليل هجرة الأدمغة العربية وتقليص الاعتماد على العمالة الأجنبية. إن وضع مثل هذه الاستراتيجية هي قضية سياسية تتحقق مع الانفتاح الديمقراطي والمشاركة المجتمعية الفاعلة التي تزيل عدم الثقة بين الأنظمة والشعوب، بعدها يمكن للاقتصاديين التفكير في سيناريوهات عملية تُطرح للنقاش.
الخلاصة، أن التصور العملي المطروح هو أن يبدأ التكامل العربي تدريجيا ضمن التكتلات الإقليمية الثلاث، تتعاون فيما بينها لتصل إلى التكامل العربي. المشروع المشترك (التصور الاستراتيجي الذي طرح في قمة البحرين) هو أهم أداة لتحقيق التكامل العربي إذا ما توافرت له الإرادة السياسية والموارد اللازمة.
في النهاية، التكامل الاقتصادي العربي ربما يكون من أهم الطريق للوصول إلى مستوى معيشة أفضل للمواطن العربي وأمن قومي ووطني يعزز مكانة الأمة.
drekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك