العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

مهم أم موهوم؟

أضيق‭ ‬كثيرا‭ ‬بالمكالمات‭ ‬الهاتفية‭ ‬الطويلة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أستخدم‭ ‬الهاتف‭ ‬إلا‭ ‬للضرورة‭ ‬القصوى،‭ ‬وليس‭ ‬مردّ‭ ‬ذلك‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬المال،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬الاتصالات‭ ‬القطرية‭ ‬وتحظى‭ ‬مكالماتي‭ ‬الهاتفية‭ ‬بـ«المجانية‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬مرده‭ ‬أنني‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬الهاتف‭ ‬اصبح‭ ‬أداة‭ ‬لزعزعة‭ ‬روابط‭ ‬الرحم‭ ‬والدم‭ ‬والصداقة‭ ‬والجيرة‭ ‬باللجوء‭ ‬الى‭ ‬النفاق‭ ‬اللاسلكي‭: ‬كيف‭ ‬أحوالك‭.. ‬شهرين‭ ‬ما‭ ‬شفناك‭.. ‬حبينا‭ ‬نطمئن‭ ‬عليك‭!! ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬فعلا‭ ‬معنيا‭ ‬بأمري‭ ‬لضحيت‭ ‬بالحلقة‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬المسلسل‭ ‬التركي‭ ‬الركيك،‭ ‬أو‭ ‬بالشوط‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬مباراة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬نادي‭ ‬بهدلونا‮»‬‭ ‬الإسباني،‭ ‬وماكرينا‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وزرتني‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬أو‭ ‬دعوتني‭ ‬الى‭ ‬كوب‭ ‬شاي‭ ‬في‭ ‬بيتك‭. ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬واتساب‭ ‬وأعفانا‭ ‬من‭ ‬حرج‭ ‬التواصل‭ ‬المنتظم،‭ ‬فلأنه‭ ‬خدمة‭ ‬مجانية‭ ‬فإن‭ ‬كثيرين‭ ‬يرسلون‭ ‬يوميا‭ ‬نصين‭ ‬او‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬‮«‬صباح‭/ ‬مساء‭ ‬الفل‮»‬‭ ‬الى‭ ‬من‭ ‬يهمهم‭ ‬الأمر،‭ ‬فصار‭ ‬معظمنا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الرسائل‭ ‬المنتظمة‭ ‬من‭ ‬الأحباب‭ ‬ما‭ ‬يطفئ‭ ‬ظمأ‭ ‬الشوق‭ ‬إليهم‭.‬

وكل‭ ‬هذا‭ ‬كوم‭ ‬وأن‭ ‬تعطيني‭ ‬رقم‭ ‬هاتفك‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬ترد‭ ‬على‭ ‬مكالماتي‭ ‬كوم‭ ‬آخر،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يحسب‭ ‬ان‭ ‬الردّ‭ ‬الفوري‭ ‬على‭ ‬المكالمات‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بالشخصية‭ ‬‮«‬المهمة‮»‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬يتجاهلون‭ ‬ما‭ ‬يرد‭ ‬اليهم‭ ‬من‭ ‬مكالمات‭ ‬خاصة،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬آخرين،‭ ‬حتى‭ ‬يعرفوا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬‮«‬هب‭ ‬ودب‮»‬،‭ ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬الموهوم‭ ‬بـ«الأهمية‮»‬‭ ‬يسعد‭ ‬كثيرا‭ ‬بوصول‭ ‬مكالمة‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬يراه‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية‭ ‬فيسارع‭ ‬إلى‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬المكالمة‭ ‬ليدرك‭ ‬الحضور‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬واصل‮»‬،‭ ‬وبعد‭ ‬طرح‭ ‬خدمة‭ ‬البريد‭ ‬المسجل‭ ‬الصوتي‭ ‬في‭ ‬الهواتف‭ ‬الثابتة‭ ‬والجوالة،‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الوجاهة‭ ‬ان‭ ‬يحول‭ ‬الناس‭ ‬هواتفهم‭ ‬الى‭ ‬البريد‭ ‬الصوتي‭ ‬لإعطاء‭ ‬الانطباع‭ ‬بأن‭ ‬صاحب‭ ‬الهاتف‭ ‬‮«‬مُهم‮»‬‭ ‬ومش‭ ‬فاضي‭ ‬وكثير‭ ‬المشغوليات‭! ‬حسنا‭ ‬اعترفنا‭ ‬بأنك‭ ‬شخص‭ ‬مهم‭ ‬ولا‭ ‬ترد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المكالمات،‭ ‬ولكن‭ ‬رجاء‭ ‬لا‭ ‬تعطني‭ ‬رقم‭ ‬هاتفك‭ ‬مجددا‭ ‬لأنني‭ ‬سأشطبه‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬هاتفي‭ ‬الجوال‭ ‬ومفكرتي‭ (‬عندي‭ ‬مفكرات‭ ‬صغيرة‭ ‬فيها‭ ‬أرقام‭ ‬أشخاص‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭).‬

وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬عانيت‭ ‬خلال‭ ‬اتصالات‭ ‬أجريتها‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬لأنه‭ ‬أصبحوا‭ ‬بين‭ ‬سحور‭ ‬وفطور‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الشخصيات‭: ‬هذا‭ ‬الهاتف‭ ‬محول‭ ‬الى‭ ‬البريد‭ ‬الصوتي‭ ‬يرجى‭ ‬إدخال‭ ‬رقم‭ ‬البتاع،‭ ‬او‭ ‬ترك‭ ‬رسالتك،‭ ‬طبعا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬اترك‭ ‬رسالة‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬مع‭ ‬جماد،‭ ‬وقبل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬زميل‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬لاحظت‭ ‬انه‭ ‬يقوم‭ ‬بتغيير‭ ‬صوته‭ ‬عند‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬المكالمات‭ ‬ويقول‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬إنه‭ ‬غير‭ ‬موجود،‭ ‬وكان‭ ‬صاحبنا‭ ‬يملك‭ ‬عملا‭ ‬خاصا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬بائس،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬برجل‭ ‬الأعمال‭ ‬ان‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنه‭ ‬موجود‭ ‬دائما،‭ ‬وبالطبع‭ ‬فقد‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬التجاري‭ ‬وأصبح‭ ‬متخصصا‭ ‬في‭ ‬ذمّ‭ ‬التجار‭. (‬بصراحة‭ ‬عندي‭ ‬عقدة‭ ‬قديمة‭ ‬مع‭ ‬المكالمات‭ ‬المسجلة‭ ‬نشأت‭ ‬عندما‭ ‬ذهبت‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬وأجريت‭ ‬اتصالا‭ ‬هاتفيا‭ ‬وظل‭ ‬صوت‭ ‬نسائي‭ ‬يقاطعني‭ ‬بانتظام،‭ ‬فشتمتها‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لإسكاتها‭ ‬وفشلت‭.. ‬وفهمت‭ ‬لاحقا‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أتشاجر‭ ‬مع‭ ‬شريط‭ ‬تسجيلي‭).‬

وللأهمية‭ ‬أشكال‭ ‬أخرى،‭ ‬فقبل‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬استفز‭ ‬هدوئي‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬السيارة‭ ‬شاب،‭ ‬اعترض‭ ‬طريق‭ ‬سيارتي‭ ‬وأرغمني‭ ‬على‭ ‬الوقوف،‭ ‬ثم‭ ‬نزل‭ ‬من‭ ‬سيارته‭ ‬وتهكم‭ ‬على‭ ‬طراز‭ ‬وشكل‭ ‬سيارتي‭ ‬وكانت‭ ‬سيارته‭ ‬جديدة‭ ‬تلمع،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬سيارتي‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬‮«‬بوينغ‮»‬،‭ ‬وقال‭: ‬لا‭ ‬تعطل‭ ‬حركة‭ ‬المرور‭ ‬بسيارتك‭ ‬اللي‭ ‬جبتها‭ ‬من‭ ‬الحراج‭ (‬سوق‭ ‬المواد‭ ‬المستعملة‭) ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬أتحداك‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬كلانا‭ ‬أوراق‭ ‬ملكية‭ ‬سيارتينا‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يتضح‭ ‬ان‭ ‬سيارتك‭ ‬مرهونة‭ ‬بنسبة‭ ‬85‭% ‬فسأحول‭ ‬سيارتي‭ ‬الى‭ ‬بيت‭ ‬دجاج،‭ ‬ولأنني‭ ‬أفحمته‭ ‬فقد‭ ‬لجأ‭ ‬الى‭ ‬الحيلة‭ ‬القديمة‭: ‬يظهر‭ ‬انك‭ ‬ما‭ ‬عرفتني،‭ ‬التي‭ ‬تقال‭ ‬للإيحاء‭ ‬بأن‭ ‬المتكلم‭ ‬شخص‭ ‬مهم،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬مهما‭ ‬فعلا‭ ‬لما‭ ‬احتجت‭ ‬الى‭ ‬إبلاغ‭ ‬الناس‭ ‬بأهميتك،‭ ‬وهنا‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬ان‭ ‬ألقي‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬رقم‭ ‬لوحة‭ ‬سيارته‭ ‬فسألته‭: ‬كم‭ ‬دفعت‭ ‬فيه؟‭ ‬فأعجبه‭ ‬السؤال‭ ‬وقال‭ ‬انه‭ ‬دفع‭ ‬فيه‭ ‬مبلغا‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬خانات‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬مهمّا‭ ‬فعلا‭ ‬لجاءك‭ ‬الرقم‭ ‬المميز‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تدفع‭ ‬فيه‭ ‬فلسا،‭ ‬وأنت‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬حال‭ ‬تستمد‭ ‬أهميتك‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬ورقم‭ ‬السيارة،‭ ‬وعليه‭ ‬فإن‭ ‬مجادلتك‭ ‬عبث‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بشخص‭ ‬‮«‬مهم‮»‬‭ ‬مثلي‭. ‬كاد‭ ‬المسكين‭ ‬ان‭ ‬يموت‭ ‬من‭ ‬الغيظ،‭ ‬ولكنه‭ ‬انهزم‭ ‬كما‭ ‬مرسي‭ ‬ابن‭ ‬المعلم‭ ‬زناتي‭! ‬كم‭ ‬هو‭ ‬ممتع‭ ‬أن‭ ‬تمسح‭ ‬الأرض‭ ‬بغرٍّ‭ ‬مغرور‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا