بعد أن أَحكمتْ الدول الصناعية المتقدمة الكبرى قبضتها على جميع الموارد والخيرات الموجودة على سطح الأرض وفي باطنها في جميع دول العالم، سواء أكانت تحت سيادتها القانونية، أو كانت تحت هيمنة وسيادة دول أخرى، اتجهتْ الآن نحو ثروات كوكبنا العامة والمشتركة أينما كانت، سواء في أعماق المحيطات السحيقة، أو في أعالي السماء في الفضاء الواسع والشاسع وفي الكواكب والأجرام السماوية، أو في أي موقع جديد من كوكبنا يتم اكتشافه مستقبلاً.
فهذه الموارد والثروات العظيمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى لسكان الأرض من المفروض أن يتمتع بها كل شعوب العالم على حدٍ سواء، وأن ينعموا جميعاً بالاستفادة منها لتعمير دولهم ورفع مستوى معيشة شعوبهم، فهي خيرات عامة، وثروات تشترك فيها كل دول العالم، وهي لا تقع جغرافيا تحت سيادة وسيطرة أي دولة، أي أنها ملك عام للجميع.
فالدول الاستعمارية الكبرى بدأت رحلة البحث عن ثروات كوكبنا أولاً فوق سطح الأرض، وبالتحديد في الغابات والبراري الفطرية العذراء البِكْر حيث التنوع الإحيائي الشديد والأحياء النباتية والحيوانية الجديدة والفريدة من نوعها على مستوى نوع الكائن الحي وعلى مستوى جيناته الخاصة به. فتم استخلاص الأدوية والعقاقير منها واحتكار تسويقها وبيعها بأغلى الاسعار، ثم انتقلت رحلة الاستكشاف إلى باطن الأرض حيث المعادن النادرة والثمينة وأغلى مصدر للطاقة استخرجه الإنسان من باطن الأرض، بعد الفحم، وهو النفط والغاز الطبيعي. فعلى هذه الثروات قامت الثورة الصناعية الأولى في بلاد الغرب، وعلى هذه الخيرات ازدهرت وتسارعت عجلة نهضة الدول الصناعية وتطورت كثيراً، وعلى هذه الموارد الحية وغير الحية استمر النماء والتقدم والرقي، فقامت الثورة الصناعية الثانية، كما أن على هذه الخيرات تحسنت وتقدمت معيشة شعوب هذه البلاد الصناعية المتقدمة.
وبعد أن وصلت هذه الرحلة الطويلة إلى نهايتها، واستنفدت كل سبل البحث عن هذه الثروات في هذه المواقع من كوكبنا وانخفضت كمياتها وأحجامها من فوق سطح الأرض وفي باطنها فأصبحت لا تفي باحتياجات التنمية في الدول الصناعية العظمى، كان لا بد من البحث من جديد ومرة ثانية عن كنوز وثروات جديدة وفي مواقع من كوكبنا غير مألوفة قديماً، وغير متوقعة للبشر.
فكان الموقع الأول في أعماق المحيطات السحيقة المظلمة والشديدة البرودة، وعلى عمق أكثر من 5 كيلومترات، التي يتوقع الإنسان أن تكون في الغالب صحراء مائية مقفرة وجرداء ميتة، لا حياة فيها ولا روح لها، وخاصة توجه البحث نحو مناطق عامة ومشتركة لكل شعوب العالم وفي مناطق التراث الطبيعي الخاص بالجميع، فليس لأي دولة حق السيطرة عليها واستكشاف واستخراج ثرواتها الحية وغير الحية والاستفادة منها دون الدول الأخرى.
وفي هذه المواقع تم البحث عن موارد حية وغير حية كالتي كانت على سطح وباطن الأرض. أما الأول فهو دراسة التنوع الحيوي من ناحية إمكانية وجود كائنات حية حيوانية ونباتية مختلفة عن التي يعرفها الإنسان، وفريدة من نوعها، ثم الكشف عن فوائدها البيولوجية للبشر في المجالات الطبية العلاجية والمجالات الكثيرة الأخرى كمواد التجميل والزينة. وقد نُفِّذت عدة عمليات ودراسات استكشافية في الأعماق البعيدة جداً عن سطح البحر، ونُشرت بعض النتائج في مجلة (Current Biology) في 19 يونيو 2023، تحت عنوان: «كم عدد الأنواع التي تعيش في أكبر منطقة للتنقيب عن المعادن؟».
وقد أكدت الدراسة الميدانية وجود ما يتراوح بين 6000 إلى 8000 نوع جديد لم يعرفه الإنسان من قبل، في المواقع التي درجة حرارتها أقل من درجة مئوية واحدة، ولا تصل إليها أشعة الشمس، حيث الظلام الشديد المدقع. فبعض هذه الكائنات القاعية الغريبة والغامضة يعيش ويسبح في عمود الماء، والبعض الآخر يعيش في تربة قاع البحر. وكل هذه الكائنات تعيش في نظام بيئي فريد وغامض حتى الآن، ولا يعرف العلماء حتى الآن عن الكثير من أسراره وخفاياه، من حيث علاقة هذه الكائنات بعضها ببعض من جهة، وعلاقة هذه الكائنات القاعية بتلك الأحياء التي تعيش فوق السطح، أو في أعماق أعلى من بيئتها الفطرية القاعية.
وأما الكنز الخفي الثاني فهو البحث عن المعادن النادرة والمطلوبة بشدة للمرحلة القادمة من عمر البشرية، والتي تتجه نحو اقتصادات مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة التي لا تلوث مكونات البيئة ولا تفاقم قضية التغير المناخي وسخونة الأرض، كطاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة الكهربائية لإنتاج السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطارية وتحتاج إلى معادن أصبحت شحيحة الآن في المواقع التقليدية في جوف الأرض، مثل الليثيوم، والكوبلت، والنحاس، والمنغنيز، وغيرها. وقد وجد الإنسان ضالته لاستخراج هذه المعادن في الأعماق السحيقة في قاع المحيطات والتي تشترك فيها البشرية جمعاء.
ومع أعماق المحيطات يجري البحث في أعالي السماء في الفضاء العالي والكواكب والأجرام السماوية عن كنوز وثروات جديدة لتزويد واستدامة عمليات التنمية على سطح الأرض، حيث زادت في السنوات القليلة الماضية رحلات الإنسان إلى سطح القمر، وكان آخرها نزول السفينة الفضائية الصينية ولأول مرة في التاريخ البشري في أبعد منطقة فوق سطح القمر في 2 يونيو 2024.
ولكي يقطف الجميع ثمرة هذه الاستكشافات في موارد كوكبنا العامة المشتركة فلا تنهبها وتحتكرها الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة، اقترحتْ منظمة تابعة للأمم المتحدة هي «السلطة الدولية لقاع البحر» (The International Seabed Authority) إنشاء صندوق تحت مسمى «صندوق استدامة قاع البحر» (Seabed Sustainability Fund). وهذا الصندوق المقترح الخاص بكنوز وثروات قاع البحر وتوزيع العوائد والخيرات المستخرجة منها من الممكن أن يعمم على المواقع الأخرى، كالفضاء والكواكب والأجرام السماوية، إضافة إلى المواقع الجديدة في المستقبل المنظور.
ولكن هل ستُوافق الدول العظمى ذات السلطة العليا على معظم دول العالم على هذا الصندوق الدولي الذي سيُضيِّق عليهم، ويقيد حريتهم، ويقنن عملهم في الاستمتاع بمخزون الأرض من الثروات والموارد؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك