فِي خِضمِّ الحرْب الوحشية على قِطَاع غَزَّة وانْتهاكات الكيَان الصَّهْيونيِّ الإرْهابيِّ الفاشيِّ والدَّمويِّ المروِّعة بِحقِّ الفلسْطينيِّين الأبْرياء العزْل، برز اِسْتغْلال الدِّين كَأَداة قَويَّة فِي تَشكِيل وَتوجِيه الرَّأْي اَلْعام والسِّياسات الدَّاخليَّة والْخارجيَّة الصَّهْيونيَّة. ومع اِسْتمْرار الانْتهاك الممنْهج لِكل الأعْراف والْقوانين الدَّوْليَّة، اَلتِي ضرب بِهَا الكيَان الصَّهْيونيُّ عُرْض الحائط فِي سَابِقة يَندَى لَهَا جبين العالم، أَصبَح اِسْتغْلال أَشبَاه القادة فِي الكيَان الصَّهْيونيِّ الغاشم لِلدِّين فِي الخطَاب السِّياسيِّ التَّحْريضيِّ أَدَاة مَركزِية لِتعْزِيز مواقفهم وكسْب التَّأْييد اَلشعْبِي والدَّوْليِّ. وَمِن بَيْن هؤلاء، يُبْرِز بِنْيامين نَّتنْياهو، رئيس الوزراء الصَّهْيونيِّ، كَأحَد أَبرَز الَّذين يسْتخْدمون الدِّين بِشَكل مُمنْهَج لِتحْقِيق أهْدافهم السِّياسيَّة الدَّنيئة.
نَستعْرِض فِيمَا يَلِي كَيفِية اِسْتغْلال الكيَان الصَّهْيونيِّ لِلنُّصوص الدِّينيَّة اليهوديَّة، خَاصَّة العهْد اَلقدِيم، لِتعْزِيز مَوقفِه السِّياسيِّ فِي الدَّاخل والْخارج، ودوْره فِي تَأجِيج الكراهية ضِد الفلسْطينيِّين، وَتنفِيذ مَجْزَرة رفح الدَّمويَّة بدءا من السَّابع والْعشْرين مِن مَايُو 2024.
اسْتعَان الكيَان الصَّهْيونيُّ فِي حَربِه الدَّامية على قِطَاع غَزَّة بِالنُّصوص التَّوْراتيَّة لِتحْرِيض وَتجنِيد الصَّهاينة لِقَتل الفلسْطينيِّين العزْل. فَعلَى سبيل المثَال لَا الحصْر، أَصدَر نَّتنْياهو فِي الخامس والْعشْرين مِن أُكتُوبَر 2023 بيانًا بِاللُّغتيْنِ العبْريَّة والْإنْجليزيَّة، اِقتبَس فِيه فِقْرَات مِن العهْد اَلقدِيم فِي سِفْر التَّثْنية وَسفَر أَشعِياء، اَلتِي ذَكرَت «أَمْر اَلرَّب» لِجَيش «العبْرانيِّين»، عِنْدمَا دخل أَرِيحَا فِي زمن اَلنبِي يُوشَع بْن نُون، بِأن يَقتُل كُلُّ نَفْس حَيَّة فِيهَا، نِسَاء وأطْفَال، وحيوانات، بِالْإضافة إِلى حَرْق الزَّرْع وهدْم اَلبُيوت.
فَفِي بَيانِه شَبهَ نَّتنْياهو الفلسْطينيِّين «بِالْعماليق» والْجَيْش الصَّهْيونيِّ «بِأداة اَلرَّب» اَلتِي تُنفِّذ إِرادة اَلرَّب فِي العهْد اَلقدِيم وَتَخلَّص الصَّهاينة مِن المقاومة الفلسْطينيَّة حِين قال: «يَجِب أن تتذكَّروا مَا فَعلَه عَمالِيق بِكم، كمَا يَقُول لَنَا كِتابِنَا اَلمُقدس، ونحْن نَتَذكَّر ذَلِك بِالْفِعْل، ونحْن نُقَاتِل بِجنودنَا الشُّجْعان وَفرقِنا الَّذين يُقاتلون الآن فِي غَزَّة وَحَولهَا وَفِي جميع المناطق اَلأُخرى فِي إِسْرائيل». والْجدير بِالذِّكْر هُنَا أنَّ كَلمَة «عَمالِيق»، التي وَردَت فِي العهْد اَلقدِيم، تُشير إِلى قَوْم مِن البدْو الَّذين سَكنُوا شِبْه جَزِيرَة سَيْناء وَجنُوبي أَرْض كَنْعان (فِلسْطِين اليوْم) كَانُوا يخوضون حرْبًا مع بَنِي إِسْرائيل.
وَبِحسَب مَا ذكر جِيرالْد كُرُومَر فِي كِتابة الإرْهاب المتمرِّد، فَإِن كَلمَة «عَمالِيق» فِي التَّقْليد اليهوديِّ تَرمُز إِلى الشُّعوب اَلتِي تُهدِّد اَلوُجود اليهوديَّ. وَهدَف نَّتنْياهو، مِن خِلَال اِقتِباس كَلمَة «العماليق»، إِلى إِعطَاء غِطَاء دِينيًّا وتسْويغًا أخْلاقيًّا لِإبادة عَمالِيق اليوْم (الفلسْطينيُّين)، الَّذين يُجسِّدون عنده «ذُروَة اَلشَّر»، وَهُو مَا لَا يملُّ الخطَاب السِّياسيُّ والْإعْلاميُّ الصَّهْيونيُّ التَّحْريضيُّ مِن ترْديده.
أَشَار نَّتنْياهو، أيْضًا، فِي بَيانِه إِلى التَّاريخ اليهوديِّ والتُّراث الدِّينيِّ، مُسْتخْدمًا مُصْطلحات مِثْل «الأبْطال اليهود» و«المقاتلين الشُّجْعان» لِوَصف جُنُود الكيَان الصَّهْيونيِّ الغاشم. بِالْإضافة إِلى ذَلِك، وَظَّف نتنياهو القوانين الدِّينيَّة كَمرجِع لِسياسة حُكومَته الهمجيَّة، وضح ذَلِك جليًّا فِي حَديثِه عن «أَرْض الميعاد» وحقِّ الصَّهاينة المزْعوم فِي الأراضي الفلسْطينيَّة المحْتلَّة اَلتِي وَردَت فِي الكتَاب اَلمُقدس. كمَا اِسْتدْعى نتنْياهو نصًّا دِينيًّا آخرا مِن أَسفَار الأنْبياء، حِين قال: «نَحْن أَبنَاء النُّور (يَقصِد الكيَان الصَّهْيونيُّ)، بيْنمَا هُم أَبنَاء الظَّلَام (يَقصِد المقاومة الفلسْطينيَّة)، وسينْتصر النُّور على الظَّلَام، سنحقِّق نُبُوءَة أَشعِياء، لَن تسْمعوا بَعْد الآن عن الخرَاب فِي أَرضِكم، سَنكُون سببًا فِي تَكرِيم شعْبكم، سنقاتل معًا وَسنُحقق النَّصْر».
وَفِي هذَا السِّيَاق أيْضًا، أَكَّد الحاخام مانيس فريدمان أنَّ النُّصوص الدِّينيَّة اَلتِي اِسْتعَان بِهَا نتنْياهو فِي بَيانِه تَعكِس قِيم التَّوْراة اَلتِي ستجْعل الصَّهاينة «النُّور» اَلذِي يَشِع لِلْأمم اَلتِي تُعَانِي الهزيمة بِسَبب الأخْلاقيَّات المدمِّرة اَلتِي اِخْترعهَا الإنْسان، وَأكَّد أيْضًا، على أنَّ هَذِه النُّصوص تُشكِّل الرَّادع اَلوحِيد والْحقيقيَّ لِلتَّخَلُّص مِن ثَبَات الفلسْطينيِّين ومقاومتهم المسْتمرَّة.
إِنَّ اِسْتدْعاء نتنْياهو لِهَذه النُّصوص الدِّينيَّة مِن العهْد اَلقدِيم لَيْس مُجرَّد تَكتِيك سِياسيٍّ، بل هُو اِسْتراتيجيَّة مُتكاملة تَهدِف إِلى تَصوِير اِسْتخْدامه لِلْقوَّة الغاشمة ضِد الفلسْطينيِّين كحرْب دِينيَّة مُقَدسَة. وَبذَلِك وَظَّف نتنْياهو الدِّين بِشَكل مُمنْهَج لِتحْقِيق أهْدافه السِّياسيَّة الإجْراميَّة الدَّنيئة، وإضْفَاء طَابَع دِينيٍّ وَهمِي على سِياساته العدْوانيَّة، وإكْسَاب حَربِه الغاشمة ضِد الفلسْطينيِّين اَلعُزل شَرعِية مَزعُومة فِي أَعيُن مُؤيِّدِيه محلِّيًّا وَدولِيا، وجذْب الجماعات اليهوديَّة المتطرِّفة لِدَعم سِياساته العدْوانيَّة، وَتحفِيز المجْتمع الدِّينيِّ فِي الاشْتراك فِي هَذِه الحرْب، وفرْض الخدْمة العسْكريَّة على اليهود المتديِّنين المتشددين «الحريْديم» فِي الجيْش الصَّهْيونيِّ التَّتَريِّ الهمَجيِّ، وَترمِيم قاعدَته الانْتخابيَّة والشَّعْبيَّة، خَاصَّة فِي ظِلِّ تَراجُع شعْبيَّته وَفْق اسْتطْلاعات الرَّأْي الأخيرة.
كان بَيَان نتنياهو، بِالْإضافة إلى خطابات أَشبَاه القادة الصَّهاينة الآخرين مِثْل أَريِيه كِينْغ، نَائِب رئيس بَلَديَّة اَلقُدس اَلذِي دعَا إِلى «حَفْر قُبُور جَماعِية ودفْن الفلسْطينيِّين وَهُم أَحيَاء»، دَعوَة رَسمِية صَرِيحَة لِلْعنْف ضِد الفلسْطينيِّين اَلعُزل وارْتكاب قُوَّات الاحْتلال الصَّهْيونيِّ اَلعدِيد مِن المجازر الدَّمويَّة فِي قِطَاع غَزَّة المحْتلَّة. أَحدَث هَذِه المجازر هِي مَجْزَرة رفح، حَيْث قَصْف جَيْش الكيَان الصَّهْيونيِّ الغاشم فِي السَّابع والْعشْرين مِن مَايُو 2024 مُخيَّم لِلنَّازحين المعْروف بِاسْم «مُخيَّم السَّلَام الكويْتيِّ» فِي مِنطَقة تلِّ السُّلْطان شَمَال غَربِي مَدِينَة رفح الفلسْطينيَّة جَنوبِي قِطَاع غَزَّة. أَدَّى هذَا القصْف اَلعنِيف اَلوحْشِي الغادر إِلى اِسْتشْهاد خَمسَة وأرْبعين شخْصًا، مِنْهم ثَلَاثة وعشْرون مِن النِّسَاء والْأطْفال وكبار السِّنِّ، فِيمَا أُصيب مِائتَان وَتِسعَة وأرْبعون آخرون بِجروح. كمَا تَجَاوزَت الآثَار اَلبشِعة لِهَذا القصْف الجرَّاح الجسديَّة، لِتمْتدّ إِلى الأرْواح المشوَّهة والْأحْلام المحطَّمة، حَيْث تَتَفاقَم الأزْمة الإنْسانيَّة اَلتِي يُواجههَا سُكَّان رفح. واضْطرَّ مِئَات الآلَاف مِنْهم إلى النُّزوح، تَاركِين وراءَهم منازلهم وممْتلكاتهم، بحْثًا عن مَلَاذ آمن. بِالْإضافة إِلى ذَلِك، تُعَانِي المسْتشْفيات المحلِّيَّة والْمرافق الطِّبِّيَّة مِن نَقْص الإمْدادات الطِّبِّيَّة الأساسيَّة، وتواجه تحدِّيَات كَبِيرَة فِي تَلبِية اِحْتياجات الجرْحى والْمصابين.
أَكدَت هَذِه المجْزرة اَلبشِعة بِوضوح وَحشِية وَهمجِية الكيَان الصَّهْيونيِّ الفاشيِّ، اَلذِي يَفتَقِد إِلى الرَّحْمة والْإنْسانيَّة، كمَا أَبرَزت سُلُوكَه العدْوانيَّ اَلعنِيف والْمتطرِّف النَّاجم عن اِسْتخْدام القادة الصَّهاينة لِلدِّين فِي خطاباتهم السِّياسيَّة التَّحْريضيَّة.
إِنَّ تَجرِيم الآخر وَتحرِيض النَّاس بِواسِطة الدِّين يُمْكِن أن يُفجِّر الصِّراعات ويؤدِّي إِلى مَجازِر مُرَوعَة كمَا حدث فِي غزة. لَا نَستطِيع أن نَتَجاهَل حَقِيقَة أنَّ الدِّين يُمثِّل عُنْصُرا قويًّا فِي الحيَاة السِّياسيَّة والاجْتماعيَّة، حَيْث يُمْكِن اِسْتخْدامه لِتحْفِيز الجماهير وَتوجِيه تصرُّفاتهم. ومع ذَلِك، يَجِب أن نَعِي بِأنَّ الدِّين لَيْس فقط وَسِيلَة لِتحْقِيق الأهْداف السِّياسيَّة، بل يَنبَغِي أن يَكُون مَصدَر إِلهَام لِلسَّلَام والتَّعايش والْعدالة.
وَمِن خِلَال هذَا المنْبر الإعْلاميِّ اَلذِي يَنبِض بِعروبته وَحُبه لِفلسْطين اَلأبِية، أُطَالِب المجْتمع اَلدوْلِي بِمحاكمة نَّتنياهو وَغيرِه مِن القادة الصَّهاينة المجْرمين، الَّذين يسْتغلُّون الدِّين فِي خِطاباتهم السِّياسيَّة التَّحْريضيَّة لِخدْمة أهْدافهم السِّياسيَّة الماكرة. كمَا أُطَالِب بِتوْثِيق الجرائم اَلتِي اِرْتكبوهَا، وَتطبِيق إِطَار قَانُوني دَولِي وَاضِح لِمحاسبتهم على اِنْتهاكات حُقُوق الإنْسان وجرائم الحرْب اَلتِي اِرْتكبوهَا ضِد الفلسْطينيِّين اَلعُزل لِضمان عدم وُقُوع مَجازِر أُخرَى فِي المسْتقْبل. كمَا أُطَالِب بِوَقف الأعْمال العدائيَّة الوحشية ضِد الفلسْطينيِّين، وَضَمان بناء مُسْتقْبَل أَكثَر إِنْسانيَّة وَسَلام لِلْفلسْطينيِّين. حِفْظ اَللَّه وَكلَأ فِلسْطِين اَلأبِية، وَمَملكَة البحْرين، وجميع البلَاد الإسْلاميَّة والْعربيَّة مِن عبث العابثين، وكيْد الكائدين، وعدْوَان المعْتدين.
{ أُسْتاذ اللُّغويَّات – وزميل أكاديميَّة
التَّعْليم العالي البريطانيَّة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك