العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن آباء بنصف دوام

البريطانيون‭ ‬هم‭ ‬رواد‭ ‬الأعمال‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬الأمريكان‭ ‬وبهروا‭ ‬العالم‭ ‬ببرامجهم‭ ‬ومسلسلاتهم،‭ ‬ولكن‭ ‬تبقى‭ ‬بريطانيا‭ ‬هي‭ ‬الدولة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬أعمار‮»‬‭ ‬البرامج‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬فبرنامج‭/ ‬مسلسل‭ ‬كورونيشن‭ ‬ستريت،‭ ‬الذي‭ ‬تبثه‭ ‬القناة‭ ‬المستقلة‭ (‬آي‭ ‬تي‭ ‬في‭) ‬عمره‭ ‬64‭ ‬سنة،‭ ‬ونيوز‭ ‬راوند،‭ ‬برنامج‭ ‬تلفزيوني‭ ‬تقدمه‭ ‬هيئة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1972‭ ‬وغايته‭ ‬الأساسية‭ ‬تعليم‭ ‬وتنوير‭ ‬الأطفال،‭ ‬واستمراره‭ ‬عدة‭ ‬عقود‭ ‬دليل‭ ‬حاسم‭ ‬على‭ ‬نجاحه،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مؤسسة‭ ‬إعلامية‭ ‬غربية‭ ‬يتم‭ ‬رصد‭ ‬شعبية‭ ‬منتجاتها‭ ‬من‭ ‬صحف‭ ‬وأفلام‭ ‬وبرامج،‭ ‬وعند‭ ‬هبوط‭ ‬شعبية‭ ‬أي‭ ‬برنامج‭ ‬تلفزيوني‭ ‬‭ ‬مثلا‭ ‬‭ ‬يتم‭ ‬سحبه‭ ‬نهائيا،‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬طرحه‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬جديد‭ ‬مشوق،‭ ‬وليس‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬عندنا‭ ‬نترك‭ ‬برنامجا‭ ‬يسبب‭ ‬التهاب‭ ‬البروستات‭ ‬للمشاهدين‭ ‬يستمر‭ ‬سنوات،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬يقدمه‭ ‬يحوز‭ ‬رضا‭ ‬من‭ ‬بيدهم‭ ‬الأمر،‭ ‬أو‭ ‬نقتل‭ ‬برنامجا‭ ‬ناجحا،‭ ‬لأنه‭ ‬يتجاوز‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء‭ (‬وما‭ ‬من‭ ‬مسارٍ‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬العامة‭ ‬إلا‭ ‬وبه‭ ‬خطوط‭ ‬حمراء‭ ‬وعلامات‭ ‬ممنوع‭ ‬الدخول‭ ‬وممنوع‭ ‬التوقف‭).‬

قام‭ ‬برنامج‭ ‬نيوز‭ ‬راوند‭ ‬باستطلاع‭ ‬بين‭ ‬أطفال‭ ‬بريطانيا‭ ‬كانت‭ ‬نتائجه‭ ‬محزنة،‭ ‬فنحو‭ ‬ثلثهم‭ ‬قالوا‭ ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يعتبرون‭ ‬آباءهم‭ ‬‮«‬جزءا‮»‬‭ ‬من‭ ‬العائلة،‭ ‬يعني‭ ‬ينظرون‭ ‬إليهم‭ ‬كغرباء‭ ‬أو‭ ‬ضيوف‭ ‬عابرين‭ ‬وربما‭ ‬ثقلاء،‭ ‬وقال‭ ‬76%‭ ‬منهم‭ ‬انهم‭ ‬يثقون‭ ‬بأمهاتهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثقتهم‭ ‬بآبائهم،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بـ«الأسرار‮»‬،‭ ‬ونحو‭ ‬62%‭ ‬منهم‭ ‬قالوا‭ ‬إنهم‭ ‬يتمنون‭ ‬قضاء‭ ‬أوقات‭ ‬أطول‭ ‬مع‭ ‬آبائهم،‭ ‬ولكن‭ ‬الآباء‭   -‬بحسب‭ ‬قولهم‭- ‬يعودون‭ ‬الى‭ ‬البيوت‭ ‬منهكين‭ ‬و«خلقهم‭ ‬ضايق‮»‬‭ ‬ويلزمون‭ ‬غرفهم‭ ‬طلبا‭ ‬للراحة‭ ‬أو‭ ‬النوم‭.‬

لحسن‭ ‬او‭ ‬سوء‭ ‬حظنا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬استطلاعات‭ ‬الرأي،‭ ‬ولا‭ ‬نحترم‭ ‬الإحصاءات،‭ ‬لأننا‭ ‬نخاف‭ ‬من‭ ‬الأرقام،‭ ‬لأنها،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الصورة‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬تكذب،‭ ‬ولهذا‭ ‬فهي‭ ‬ترعب،‭ ‬ولو‭ ‬أُجري‭ ‬استطلاع‭ ‬مماثل‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬لفجعتنا‭ ‬نتائجه،‭ ‬فالأب‭ ‬عندنا‭ ‬صار‭ ‬تدريجيا‭ ‬يسجل‭ ‬غيابا‭ ‬شبه‭ ‬تام‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬عياله،‭ ‬بل‭ ‬يتعرض‭ ‬الشخص‭ ‬المنضبط‭ ‬عائليا‭ ‬للمعايرة‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬يخاف‭ ‬من‭ ‬المدام‮»‬،‭ ‬وليثبت‭ ‬انه‭ ‬لا‭ ‬يخاف‭ ‬منها‭ ‬يتمادى‭ ‬في‭ ‬السهر‭ ‬خارج‭ ‬البيت‭ ‬والتنقل‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الى‭ ‬آخر‭ ‬حتى‭ ‬ساعات‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬او‭ ‬بواكير‭ ‬الفجر،‭ ‬فالبيت‭ ‬فقط‭ ‬محطة‭ ‬للراحة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬العمل‭ ‬وبرنامج‭ ‬المساء‭ ‬والسهرة‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يجنح‭ ‬العيال‭ ‬وتتمرد‭ ‬الزوجة‭ ‬و‮«‬يخترب‭ ‬البيت‮»‬‭.‬

هل‭ ‬العيب‭ ‬والنقيصة‭ ‬ان‭ ‬تحسب‭ ‬حساب‭ ‬زوجتك،‭ ‬ام‭ ‬حساب‭ ‬ألسنة‭ ‬أصدقائك؟‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬‮«‬يخاف‮»‬‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬أكثر‭ ‬ثقة‭ ‬بأنها‭ ‬تأبه‭ ‬له‭ ‬وتريده‭ ‬بجوارها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الـ«عنتر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يتباهى‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يقيم‭ ‬وزنا‭ ‬لنقنقة‭ ‬وشنشنة‭ ‬زوجته؟‭ ‬ثم‭ ‬إنك‭ ‬عندما‭ ‬تخص‭ ‬أصدقاءك‭ ‬بمعظم‭ ‬وقت‭ ‬فراغك‭ ‬لتثبت‭ ‬أنك‭ ‬‮«‬سي‭ ‬السيد‮»‬‭ ‬فإنك‭ ‬تلقائيا‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬عيالك‭ ‬وتصبح‭ ‬في‭ ‬نظرهم‭ ‬مثل‭ ‬الآباء‭ ‬البريطانيين‭ ‬الذين‭ ‬قال‭ ‬عيالهم‭ ‬انهم‭ ‬لا‭ ‬يعتبرونهم‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬العائلة‭.‬

أمر‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الاستطلاع‭ ‬حز‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬كثيرا،‭ ‬وهو‭ ‬ان‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬استطلعت‭ ‬آراؤهم‭ ‬قالوا‭ ‬إنهم‭ ‬يتضايقون‭ ‬لأن‭ ‬آباءهم‭ ‬يمنعونهم‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬وشخصيا‭ ‬لم‭ ‬أسمح‭ ‬قط‭ ‬لأحد‭ ‬من‭ ‬عيالي‭ ‬الأربعة‭ ‬باللعب‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مرحلة‭ ‬عمرية،‭ ‬فثلاثة‭ ‬منهم‭ ‬ولدوا‭ ‬وأنا‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج،‭ ‬وأكبرهم‭ ‬أتى‭ ‬معي‭ ‬الى‭ ‬الخليج‭ ‬وعمره‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬سنة‭! ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬كلامي‭ ‬هذا؟‭ ‬معناه‭ ‬أنني‭ ‬منعتهم‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬الجيران‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬طباع‭ ‬عيالهم‭: ‬على‭ ‬شمالي‭ ‬هندي‭ ‬وبعده‭ ‬استرالي‭ ‬وعلى‭ ‬اليمين‭ ‬فلبيني‭. ‬يليه‭ ‬سوري‭ ‬بيته‭ ‬يلاصق‭ ‬بيت‭ ‬عائلة‭ ‬كورية،‭ ‬وعندما‭ ‬يكون‭ ‬الجيران‭ ‬غرباء‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬مكان‭ ‬لحقوق‭ ‬الجوار‭. ‬حتى‭ ‬‮«‬أهل‭ ‬البلد‮»‬،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أحياء‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الخليجي‭ ‬او‭ ‬ذاك،‭ ‬يعانون‭ ‬‮«‬الغربة‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬جيران‭ ‬الطفولة‭ ‬طفشوا‭ ‬الى‭ ‬مناطق‭ ‬بعيدة،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬فعندما‭ ‬كنا‭ ‬صغارا،‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬وفي‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المناطق،‭ ‬كان‭ ‬أهلنا‭ ‬يطردوننا‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬كي‭ ‬نلعب‭ ‬في‭ ‬الشوارع،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬واثقين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الكبار‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الحي‭ ‬‭ ‬سيوقفوننا‭ ‬عند‭ ‬حدودنا‭ ‬إذا‭ ‬تجاوزنا‭ ‬حدود‭ ‬الأدب،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬تحرش‮»‬‭ ‬قد‭ ‬اخترعت‭ ‬بعد‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا