إن الهوية متغيرة وتطرأ عليها تحولات لأن مفاهيم مثل الثقافة والتاريخ والتصورات الذاتية الجماعية ليست ثابتة أبدًا، وهي حالة مستمرة من زخم التدفقات وعمليات المراجعة.
لمئات السنين، بدت خريطة الإمبراطورية الرومانية أقرب إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفي نهاية المطاف، أصبحت خريطة شرق أوسطية أكثر منها خريطة أوروبية – وفقاً للترسيم الجغرافي، أو حتى الجيوسياسي لأوروبا اليوم.
وأعادت مئات السنين من الصراعات والحروب والغزوات تعريف الهوية الرومانية، وقسمتها بحلول نهاية القرن الرابع بين الغرب والشرق.
ولكن حتى في ذلك الوقت، كانت الخطوط السياسية تتغير باستمرار، وأعيد رسم الخرائط بشكل متكرر كما أعيد تعريف الهويات على النحو الملائم.
وهذا ينطبق على معظم تاريخ البشرية. صحيح أن الحرب والصراع كانا بمثابة محركين لتغيير الخرائط ــ وعلاقتنا الجماعية بهذه الخرائط – ولكن الثقافة تتشكل وتعاد تشكيلها أيضا بفِعل عوامل أخرى.
أدى تغلغل اللغة الإنجليزية، على سبيل المثال، كأداة رئيسية للتواصل في فترة ما بعد الحرب الباردة، إلى الغزو القادم من الولايات المتحدة الأمريكية، وبدرجة أقل، وسائل الترفيه البريطانية – الأفلام والموسيقى والرياضة وما إلى ذلك لأجزاء ومناطق كثيرة وواسعة من العالم.
وقد أدى هذا التوغل والتغلغل إلى تعطيل التطور الثقافي الطبيعي للعديد من المجتمعات الإنسانية، وتوسيع الفجوة بين الأجيال، وإعادة تعريف المفاهيم والقيم والأولويات الاجتماعية في العديد من دول العالم.
إن مثل هذا التغيير المفاجئ في التدفق الثقافي لا يؤدي إلا إلى تعزيز صحة ومتانة الأمم والشعوب، حيث إن إحساسها بذاتها هو نتيجة لمئات، إن لم يكن آلاف السنين من الصراعات الاجتماعية، والنزاعات، والنمو في كثير من الأحيان.
وبالتالي، لا يمكن الوثوق بالهوية، باعتبارها دالة سياسية دائمة، لأن هذا المفهوم الغامض في حالة حركة دائمة وتغير مستمر، وبسبب الاتصال غير المسبوق بين الشعوب في جميع أنحاء العالم.
وفي حين أن هذا الارتباط يمكن أن يؤدي إلى إبادة عرقية بطيئة، وهو أمر يصعب اكتشافه، ناهيك عن تجنبه، فإنه يمكن أن يساعد أيضًا الدول المحاصرة والمضطهدة على القتال والدفاع عن نفسها.
كانت مثل هذه النظريات التي تنم عن صلف وأنانية تخدم مصلحة الذاتية، مثل نظرية «صدام الحضارات» لصاحبها الأكاديمي والمنظر الأمريكي صموئيل هنتنغتون، تثير الكثير من الغضب والاستياء والجدل في أوساط العديد من الأكاديميين الأمريكيين الغربيين.
كان التقسيم الذي طرحه صموئيل هنتنغتون للعالم إلى «حضارات كبرى»، التي سيتم تحديد علاقاتها من خلال الصراعات، بمثابة إضافة مريحة لتاريخ من هذه الاستعارات العنصرية، التي وصلت إلى المراحل الأولى من الاستعمار الغربي.
لقد تم دفع هذا التفكير إلى الأمام من خلال النفعية السياسية، وليس الفكر العقلاني، حيث تم تسويقه بكثافة في أعقاب انهيار النظام السوفييتي، وحرب العراق الأولى، والنزعة العسكرية الغربية الجريئة في جميع أنحاء آسيا والشرق الأوسط وبقية دول الجنوب العالمي.
إن ربط المساعي والتوجهات العنيفة بكلمات سامية مثل الحضارات – بعضها مدفوع بقيم عالمية، في حين أن بعضها الآخر، بدافع التطرف المفترض – كان مجرد إعادة تقديم لشعارات قديمة مثل «مهمة أوروبا الحضارية» و«القدر الأمريكي الواضح».
لقد فشلت جميعها على أي حال، أو بشكل أكثر دقة، لم تتمكن من تحقيق النتيجة المرجوة المتمثلة في إبقاء العالم رهينة لتعريف الغرب للحضارة والهويات والعلاقات الإنسانية، وبالتالي «الصدام» الذي يفترض أنه لا مفر منه.
وفي الوقت الحالي، هناك علامات على ظهور عالم جديد. إنها ليست دولة تتشكل من خلال المساعي أو الدوافع الحضارية، بل من خلال نفس النموذج التاريخي القديم: أولئك الذين يسعون إلى السلطة التي يمكنها توسيع وحماية مصالحهم الاقتصادية، وأولئك الذين يقاتلون سعياً إلى الحرية والعدالة والمساواة وسيادة القانون. وما شابه ذلك.
ويمكن لأولئك الذين يسعون إلى السلطة أن يتحدوا، وهم بالفعل يتحدون بما يتجاوز ميولهم الحضارية المفترضة، وقيمهم الدينية، وتوجهاتهم العرقية والجغرافية.
وحتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية، كانت حرب باردة جديدة قد بدأت تنشأ وتتشكل بالفعل، بين إمبراطورية متدهورة وآخذة في التراجع والتقهقر، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وإمبراطورية أخرى صاعدة بقوة، ألا وهي الصين.
ووفقًا لصموئيل لهنتنغتون، فإن كلا البلدين – أي الولايات المتحدة الأمريكية والصين – سيكونان بمثابة أمثلة كتابية عن «الحضارة الغربية» مقابل «الحضارة الصينية» – التي تم دمجها مع غيرها تحت «العالم الشرقي».
ومع ذلك، لم ينجح النهج المعدل لباراك أوباما ولا الأسلوب الشعبوي لدونالد ترامب في تعميق هذا الصدام الحضاري المفترض. ولا تزال بقية علاقات العالم مع الصين تحكمها المصالح الاقتصادية.
وحتى حلفاء واشنطن الأوروبيون، الذين يعتمدون بشكل كبير على التجارة الصينية والتقدم التكنولوجي، ليسوا مقتنعين تمامًا بالانضمام إلى الحرب التجارية على بكين باسم القيم الغربية المشتركة وغيرها من الخطابات المشابهة.
أما بالنسبة إلى أولئك الذين يقاتلون، فقد كانت الحرب على غزة بمثابة صرخة غير متوقعة من أجل التوحد. والحقيقة أن الحرب أسفرت عن تشكيل جديد كلياً للعلاقات الدولية لم يكن موجوداً قبل السابع من أكتوبر 2023.
إن أولئك الذين يتحدثون باسم الفلسطينيين لا تحكمهم حدود دينية أو عنصرية أو جغرافية أو حتى ثقافية. فمن ناميبيا إلى جنوب إفريقيا، ومن البرازيل وكولومبيا إلى نيكاراغوا، ومن الصين إلى روسيا فالشرق الأوسط، يصعب تعريف التضامن مع غزة من منظور «حضاري» ضيق.
ويشمل ذلك الاحتجاجات الجماهيرية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث يتحد الناس من كل لون وعرق وفئة عمرية وجنس ودين وغيرهم في ترنيمة واحدة: وقف إطلاق النار الآن.
وبطبيعة الحال، سوف يكون هناك دائماً أولئك الذين يستثمرون في تقسيمنا وزعزعة صفوفنا، حول أي خطوط قد تخدم أجنداتهم السياسية، والتي ترتبط دائماً تقريباً بالمصالح الاقتصادية والقوة العسكرية.
ومع ذلك، فإن المقاومة العالمية لمثل هؤلاء الأكاديميين الوهميين والساسة الشوفينيين أصبحت أقوى من أي وقت مضى. لقد أثبتت غزة أنها العامل الموحد، حيث رسمت خطاً يربط بين كل المجموعات الحضارية التي ذكرها هنتنغتون، ليس حول صراع حضاري وشيك، بل حول العدالة العالمية.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك