لا يكاد يمر يوم إلا ونقرأ في وسائل الإعلام المختلفة عن ثورة الذكاء الاصطناعي المذهلة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية في المجالات كافة، وقد استطاعت الدول التي لديها بنية تحتية رقمية متميزة مثل دول الخليج العربي الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في المجالات المختلفة وهو ما نراه في تعدد المؤتمرات التي استضافتها دول الخليج ودعت إليها خبراء في ذلك المجال من دول العالم المختلفة للتعرف على أبرز مستجداته، بالإضافة إلى صياغة بعض دول الخليج استراتيجيات حول الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن توظيف بعض الدول تلك التقنيات في المجالات الأمنية والصحية والتعليمية والاقتصادية، ومع أهمية ما سبق فإن التساؤل الذي يفرض ذاته ماذا عن المجال العسكري؟ وهو تساؤل له وجاهته في ظل أمرين الأول: إنه إذا كانت دول العالم ترى في تقنيات الذكاء الاصطناعي فرصاً يجب اقتناصها فإن دول الخليج العربي ستكون حاجتها إلى تلك التقنية ماسة كما ترى بعض الدراسات بأنها دول صغرى ليس لديها جيوش كبرى ومن ثم يمكن تعويض حجم الجيوش من خلال تلك التقنيات الحديثة، والثاني: إنه إذا كان الذكاء الاصطناعي قد أدى إلى تغير مفاهيم مثل الحرب والردع وتوازن القوى، فإن التطورات المذهلة في ذلك المجال قد أثرت في مسألة توازن القوى بالنسبة إلى دول الخليج التي كانت تعتمد على مشتريات الأسلحة والتي لن تكون وفقاً لعقود طويلة الأمد، وأيضاً الشراكات الاستراتيجية لأنه ليست كل القوى والمنظمات الدولية لديها استعداد لمشاركة دول الخليج أسرار تلك التكنولوجيا.
من ناحية أخرى لم تكن دول الخليج العربي بمنأى عن تهديدات تلك التكنولوجيا ابتداءً من الهجوم الإلكتروني الذي استهدف 30 ألف جهاز كمبيوتر في شركة أرامكو النفطية بالمملكة العربية السعودية عام 2012 ولذلك دلالته حيث إن الجهة المنفذة استهدفت إيقاف تصدير النفط للأسواق العالمية ومروراً باستهداف المنشآت النفطية التابعة للشركة ذاتها في إبقيق وخريص عام 2019 من خلال طائرات من دون طيار «درونز» وانتهاءً باستهداف منطقة الإنشاءات الجديدة في مطار أبوظبي بطائرات درونز عام 2022، تلك الحوادث والتي لم تكن سوى على سبيل المثال لا الحصر تؤكد حقيقة مفادها أن الجهات التي تقف وراء تلك الاعتداءات قد استهدفت تعطيل عمل المنشآت الحيوية في بعض دول الخليج العربي الأمر الذي يعيد تأكيد التساؤل السابق الإشارة إليه: ما جهود دول الخليج العربي في مجال توظيف الذكاء الاصطناعي عسكرياً؟ ولا شك أن الإجابة عن ذلك التساؤل ليست من السهولة بمكان فالأمر يرتبط بمدى وجود مؤسسات معنية بمسألة التصنيع العسكري أولاً وتتمثل في بعض الشركات والمؤسسات الوطنية التي أنشأتها دول الخليج العربي لهذا الغرض والتي يشترط بعضها توطين نسبة من الصناعات عند إبرام الصفقات العسكرية، من ناحية ثانية التساؤل حول الأطراف المعنية هل هي فقط الحكومات، صحيح أن المسائل العسكرية منوطة بالحكومات إلا أن مسألة التمويل الضخم الذي يحتاجه ذلك المجال تثير تساؤلات حول دور القطاع الخاص في ذلك المجال ومتطلبات ضمان عمله للاستثمار طويل الأمد فيه وأخيراً متطلبات توطين تلك الصناعات ذاتها سواء التعليم النوعي أو كيفية الحصول على تلك التكنولوجيا من الشركاء الدوليين على الأقل خلال السنوات الأولى من الشراكة إلى حين إنجاح التوطين.
ولا يعني ما سبق أن دول الخليج العربي لا تزال بعيدة عن توظيف الذكاء الاصطناعي عسكرياً لأن المناورات المشتركة مع الشركاء والحلفاء تتضمن توظيف تلك التكنولوجيا وخاصة في مجال الأمن البحري من حيث اكتشاف الألغام وتقديم الإسعافات الأولية في البحار وغيرها، كما أن معارض الدفاع التي تقام سنوياً في دول الخليج العربي تتضمن ما وصلت إليه تلك الدول من تطور في التقنيات العسكرية المختلفة، فضلاً عن الشراكات الدولية ففي مارس 2024 تم اختيار مملكة البحرين ضمن فريق دولي مكون من خمس دول بقيادة الولايات المتحدة للعمل خلال عام لاستكشاف أطر استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات العسكرية.
ومع أهمية ما سبق فإن دول الخليج العربي لا تزال تواجه تحديات في هذا المجال منها الفجوة بين قدراتها الحالية والتهديدات التي تواجهها وخاصة في مجال الأمن البحري ومن ذلك الكوارث البحرية ومدى قدرة دول الخليج على التنبؤ بها والتعامل معها، تحديات توطين الصناعات العسكرية ذاتها وهي التطور المذهل في التقنيات العسكرية بما لا يتيح لدول الخليج إمكانية إبرام عقود طويلة الأمد، مسألة حقوق الملكية الفكرية وكيفية الحصول على تلك التكنولوجيا من الشركات الأم ثم القدرات البشرية اللازمة للتعامل مع تلك التكنولوجيا ومنها على سبيل المثال القدرة على تأسيس ما يعرف «بالجيوش الإلكترونية»، وأخيراً تحدي البحث والابتكار، فعلى الرغم من أن هناك اهتماما بالغا بمجال الابتكار في دول الخليج العربي إلا أن رؤية الذكاء الاصطناعي من المنظور العسكري وليس التقني فحسب أمر يحتاج إلى استراتيجيات ليست فقط وطنية وإنما على صعيد التكامل الخليجي في ظل وجود مقومات هائلة لدول الخليج في المجال الرقمي يمكن أن تكون منطلقاً مهماً في هذا المجال وكذلك التشريعات المتشابهة والخطط التنموية.
ومجمل القول إن دول الخليج العربي التي لديها تطورات هائلة في الخدمات السحابية وتخصيص استثمارات ضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي وتأسيس شراكات دولية مهمة مع الدول والشركات الكبرى التي في طريقها نحو التنوع ليس فقط من الدول الغربية ولكن من الصين وروسيا جميعها عوامل تؤهل دول الخليج لأن تحقق تطوراً مهماً في التكنولوجيا العسكرية وربما تكون هناك حاجة إلى التفكير الخليجي الجماعي بشأن وضع ضوابط لاستخدامات الذكاء الاصطناعي على غرار التشريع الذي أصدره الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن وربما تكون فيه دروس مستفادة، أو تخصيص صندوق للابتكار في المجال العسكري بمجلس التعاون لدول الخليج العربية على غرار صندوق الناتو لهذا الغرض الذي أعلنه في عام 2021.
إن تغير مفهوم الأمن نتيجة التطور المذهل في الذكاء الاصطناعي بما يعني إعادة ترتيب قوة الدول واستهداف المنشآت الحيوية لدول الخليج العربي من جانب الجماعات دون الدول وعدم وجود تشريع دولي يجرم جرائم الذكاء الاصطناعي جميعها عوامل تحتم على دول الخليج العربي بحث سبل توظيف تلك التكنولوجيا في المجال العسكري وهي التي حققت فيها إنجازات ولو متواضعة حتى الآن ولكنها أصبحت ضرورة لا غنى عنها في ظل زيادة وتيرة ونوعية التهديدات التي لم يعد بالإمكان مواجهتها بالأسلحة التقليدية، فالتكنولوجيا العسكرية أضحت ضرورة لا خيارًا ولدول الخليج العربي خيار استراتيجي يفرضه الواقع الجيوسياسي لتلك الدول والذي يشهد تهديدات غير مسبوقة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك