لا تذكر لنا كتب التاريخ الكثير من سيرة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما الملقبة بذات النطاقين قبل يوم الهجرة المباركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مكة المكرمة إلى المدنية المنورة. وإن كان هناك عدد من الروايات والكتب إلا أننا سنحاول أن نتجاهلها وخاصة ونحن نتكلم عن قدراتها القيادية التي برزت بعد ذلك عندما خاضت غمار الحياة سواء في بيت الزوجية أو في مكة المكرمة أو المدنية المنورة، أو مواقفها مع الحجاج بن يوسف الثقفي وغيرها من المواقف.
هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، صحابية من السابقين الأولين في الإسلام، وهي ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وزوجة الزبير بن العوام رضي الله عنه، وأخت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى عليه وسلم، وكانت أسنَّ من عائشة ببضع عشرة سنة، وهي أم عبد الله بن الزبير الذي بويع له بالخلافة، وأول مولود للمهاجرين بالمدينة.
لها ثلاثة إخوة وأختان، ومن أشهرهم عبد الله بن أبي بكر الذي كان مساعدها أثناء هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن أبي بكر وأم المؤمنين وأم كلثوم.
هاجرت إلى المدينة المنورة وهي حامل بعبد الله، وولدت خمسة أولاد هم، عبد الله، وعروة، والمنذر، وعاصم، والمهاجر، وثلاث بنات هن: خديجة الكبرى، أم الحسن، عائشة. شهدت معركة اليرموك مع ابنها وزوجها. عاشت أسماء إلى أن وَلي ابنها الخلافة ثم إلى أن استشهد، وصارت كفيفة، وماتت وقد بلغت مائة سنة، وهي أخر المهاجرات وفاةً. روت عدة أحاديث، ومسندها ثمانية وخمسون حديثًا، واتفق لها البخاري ومسلم على ثلاثة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بخمسة أحاديث، ومسلم بأربعة.
الصفات القيادية في شخصية أسماء ذات النطاقين
ربما وجدنا صعوبة كبيرة في تحديد صفات ذات النطاقين القيادية، إذ إن حياتها كلها تشير إلى أنها قائدة بالفطرة، فالدراسات والمراجع تشير إلى كثير من تلك المواقف التي كانت ذات تأثير على الدعوة الإسلامية وخاصة في بداية بزوغها، وحتى توفت رضي الله عنها عندما وقفت في وجه الحجاج بن يوسف الثقفي أمام جثة ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ومن قوة موقفها اهتز الحجاج نفسه الذي كان يخيف الناس، لنقرأ ونشاهد بعضًا من سيرتها وقدراتها.
اتخاذ القرار في الأزمات؛ تقول رضي الله عنها وهي ابنه الرابعة عشر عاما، عندما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة مع الصديق رضي الله عنه «صنعت سفرة النبي في بيت أبي حين أراد أن يهاجر، فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطهما، فقلت لأبي: ما أجد إلا نطاقي، قال: شقيه اثنين فاربطي بهما. قالت: فلذلك سميت ذات النطاقين».
وتقول الروايات إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى ذلك كله، فسماها أسماء ذات النطاقين، وقال لها: «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة».
يمكن أن نجد أنها رضي الله عنها لم تتردد في شق نطاقها، فالجميع في تلك اللحظة في موقف سوف يغير التاريخ ولحظة مفصلية سجلها التاريخ بمداد من نور، ليس ذلك فحسب وإنما كانت تعلم أن أي تأخير في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الدار يعني الفرصة المناسبة لكفار قريش بالقضاء على الدعوة وصاحبها، لذلك تحرك عقلها القيادي الفطري فاتخذت في الموقف المناسب القرار المناسب ومن غير تردد، فقد كان الموقف سريعا وخطيرا، وكان يحتاج إلى قرار، فكان القرار المناسب.
المواجهة والذكاء وحسن الرد: تشير الروايات أنه بعدما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، حمل رضي الله عنه معه ماله كله في تلك الليلة، ولم يترك في البيت شيئًا، وكان ماله حوالي خمسة آلاف أو ستة آلاف.
فجاء جد أسماء (أبو قحافة) إلى البيت ولم يكن قد أسلم بعد، كان قد عُمِي فقال لها: «إن هذا – يقصد أبا بكر– قد فجعكم بماله ونفسه»، فقالت: «كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا». فعمدت إلى بعض الحجارة، فجعلتهن في كوة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده، ووضعتها على الثوب، وقالت: «يا أبت ضع يدك على هذا المال»، فوضع يده عليه فقال: «لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم».
يبقى السؤال المهم؛ من كان يفكر بهذا النوع من التفكير إن لم يكن لديه عقل قيادي يفكر بهذا النوع من الذكاء؟
وفي موقف آخر، وبعدما غادر المهاجر وصاحبه، أتاها أبو جهل في نفر من قريش يسألونها عن أبيها، وضربها أبو جهل حين لم تجبه، تقول أسماء: «ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجتُ إليهم فقالوا: «أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟»، قلت: «لا أدري والله أين أبي»، فرفع أبو جهل يده وكان فاحشًا خبيثًا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا».
وفي الحقيقة لم تكذب، لأنها بالفعل لم تكن تعرف في تلك اللحظة أين بلغوا في تلك الرحلة، إذ لم يأت الخبر بعد، فلا ننسى أنها كانت على الرغم من حملها، إلا أنها كانت تأخذ الطعام لهما.
ومن جانب آخر، فإنه كان لا بد من كتمان الأمر، وذلك مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)، وكان الجميع في أمس الحاجة إلى الكتمان.
ويمكن أن يلاحظ أنها استعانت خلال الموقفين بالذكاء وحسن الرد، وكانت قادرة على المواجهة إذ إنها واجهت فرعون الأمة بثبات، وهذه صفات قيادية.
الجرأة والقوة والعزيمة: ربما يُعد هذا الموقف من أقوى المواقف التي مرت على أسماء رضي الله عنها هذا الموقف الأخير مع ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فتروي كتب السير:
أنه قبيل مصرع عبد الله بن الزبير رضي الله عنه بساعاتٍ دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر وكانت عجوزًا قد كفَّ بصرها، فقال: السلام عليك يا أُمَّه ورحمة الله وبركاته.
فقالت: وعليك السلام يا عبد الله. ما الذي أقدمك في هذه الساعة، والصخور التي تقذفها منجنيقات الحَجَّاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزًا؟
قال: جئت لأستشيرك.
قالت: تستشيرني في ماذا؟
قال: لقد خذلني الناس وانحازوا عني رهبة من الحجاج أو رغبة بما عنده حتى أولادي وأهلي انفضوا عني، ولم يبق معي إلا نفر قليل من رجالي، وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين، وأرسل بني أمية يفاوضونني على أن يعطونني ما شئت من الدنيا إذا ألقيت السلاح وبايعت عبد الملك بن مروان، فما ترين؟
فعلا صوتها وقالت: الشأن شأنك يا عبد الله، وأنت أعلم بنفسك؛ فإن كنت تعتقد أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك، وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك.
قال: ولكني مقتول اليوم لا محالة.
قالت: ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختارًا، فيلعب برأسك غلمان بني أمية.
قال: لست أخشى القتل، وإنما أخاف أن يمثِّلوا بي.
قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء، فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ.
فأشرقت أسارير وجهه وقال: بوركتِ من أم، وبوركت مناقبك الجليلة؛ فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت، والله يعلم أنني ما وهنت ولا ضعفت، وهو الشهيد عليّ أنني ما قمت بما قمت به حبا بالدنيا وزينتها، وإنما غضبًا لله أن تستباح محارمه، وها أنا ذا ماض إلى ما تحبين، فإذا أنا قتلت فلا تحزني عليّ وسلمي أمرك لله.
قالت: إنما أحزن عليك لو قتلت في باطل.
قال: كوني على ثقة بأن ابنك لم يتعمد إتيان منكر قط، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يكن شيء عنده آثر من رضا الله عز وجل، لا أقول ذلك تزكية لنفسي؛ فالله أعلم مني بي، وإنما قلته لأدخل العزاء على قلبك.
فقالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يحب وأُحب.
ثم أردفت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قائلة لولدها عبد الله بن الزبير: اقترب مني يا بني لأتشمم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك.
وتروي كتب السير، أنه استشهد في ذلك اليوم. وبعدها قامت بدفنه وصلت عليه، ووقفت أمام الحجاج حتى اهتز وخرج من أمامها مهزوزًا.
إن لم تكن تلك صفات قيادية، فماذا تكون؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك