عقدت في البحرين القمة العربية الثالثة والثلاثون ونبارك لجلالة الملك وشعب البحرين النجاح في تنظيم هذه القمة والمساهمة الفاعلة في قرارات القمة. كما تزامنت القمة مع مؤتمر نظمه مكتب يونيدو البحرين حول الاستثمار والتكامل الاقتصادي العربي. وسبقه اتحاد الغرف التجارية المنعقد كذلك في البحرين في سبتمبر 2023 والذي تبنى رؤى اقتصادية عربية موحدة في سياق التحولات العالمية الراهنة، وطرح فكرة «التكامل التنموي». من ذلك نرى أن القمة والمزاج العربي العام يتحدث ويتطلع إلى استقرار سياسي وأمني وتقدم مجتمعي وتكامل اقتصادي تنموي يمنح الدول العربية قاعدة صلبة من التعاون تنطلق منها نحو مستقبل أفضل يضع الأمة العربية قوة على الساحة الدولية.
هيمنت القضية الفلسطينية على مجريات القمة وقراراتها وأبرزت كثيرا من جوانب القصور في الوضع العربي، أدرك معها القادة الحاجة إلى تعزيز القدرات العربية لتمكينها من المحافظة على أمنها وحقوقها ومصالحها. فقد جاء في خطاب جلالة الملك أهمية «رص الصف العربي» وضرورة حل القضية الفلسطينية من خلال مؤتمر دولي. وإدراكا لذلك يقول رئيس الحكومة المغربية إن «مستقبل الأمة رهينة إيجاد تصور استراتيجي مشترك». ويضيف الرئيس الجزائري إن «قضيتنا المركزية بحاجة إلى أمة قوية تتقدم صفوف المناصرين لها». وهذا إدراك من القيادات بأن الوضع يتطلب إصلاحات جذرية متعددة الأبعاد توحد الدول بشعوبها أولا ومع بعضها، وتضع حدا للخلافات والمنازعات لدعم ما تقدمت به القمة من قرارات ومطالبات أممية تعيد للشعب الفلسطيني حقوقه. النتيجة الحتمية لمعالجة الخلافات أن يتحقق التكامل الاقتصادي «التنموي» العربي، الذي تأخر عقودا؛ وأن تستمد الأمة منها قوة ترتكز على استقرار الوضع السياسي وعدالة الشأن الاجتماعي وصلابة الوضع الاقتصادي وحيوية الحياة الفكرية والثقافية.
علينا نحن الأمة العربية أن نعي أن الدول تتقدم بقيمها، والمجتمعات بحيويتها، والاقتصاد بإبداعاته وابتكاراته. بهذه الثلاثية المتكاملة وغير المتناقضة، وبتوفر الإرادات السياسية، يمكن أن نبدأ إصلاح البيت العربي الذي طالب به معظم القادة. يتم الإصلاح من خلال تعزيز المسارات الديمقراطية التي تشترك الشعوب في صناعتها، وتزيل أي تناقضات بين قوة الدولة وقوة المجتمع، مصحوبة بتنمية متعددة الأبعاد تؤمِّن العدالة والمساواة وإعلاء القيم الإنسانية. بذلك يمكن أن نلبي ما جاء في ديباجة البيان من تحقيق «التقدم الجماعي لدولنا في كل المجالات نحو منطقة قوية آمنة مستقرة ومزدهرة، تلبي مصالح وتطلعات شعوبها». وأن تنعم دولنا بجوهر التنمية الشاملة، القائمة على العدالة والمساواة وتعزيز حقوق الإنسان وحماية حرياته.
فيما يتعلق بالتكامل الاقتصادي العربي كأحد مرتكزات قوة الأمة ومستقبلها، فقد بدأ منذ الخمسينيات من القرن الماضي، ومازال في بداياته. أصبح التكامل الاقتصادي العربي من الموضوعات القديمة المتجددة في أدبياتنا الاقتصادية. شهدت المنطقة العربية سلسلة من المحاولات المتعاقبة من أجل إقامة تكامل اقتصادي فيما بينها، ولم يتوقف الحديث ولم تنقطع محاولات إقامة تكامل عربي قوي يحفظ مصالح الأمة ويعزز قدراتها التنموية ويمنحها موقفًا تفاوضيًا أقوى في المحافل الدولية وقوة سياسية تحفظ حقوقها.
إن النجاح في التكامل الاقتصادي، وفي تحقيق الاستقلالية السياسية والاقتصادية ومكاسب التنمية يتطلب التزاما بما جاء في الاتفاقيات الاقتصادية وفي القمة من مبادئ ومفاهيم وتصريحات للقادة توحي بوعي وإدراك لحجم المشكلة، وتطالب القادة بالعمل وفق هذا الإدراك. النجاح يحتم عليها أولا أن تستفيد الأمة من تاريخها العريق وتراثها الثري بإعادة قراءته وتدبره واستخراج القيم والأسس التي وجهت تلك النهضة وساهمت في إعلاء أهمية الحرية الفكرية والعقلانية والمنهجية العلمية. فمثلا يقول الأمين العام للأمم المتحدة «لقد كانت قرطبة مركز الثقافة والحضارة الايبيرية كما كانت بغداد مركز الحضارة في العالم، أثرت في العالم إلى الصين والأطلسي»؛ أما اليوم فيقول إن «عجلة التاريخ تحركت وغيرت العالم في الميادين الثقافية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والعسكرية على حساب الشعب العربي». على قادة الدول العربية التعامل مع هذا الواقع وتغييره إلى مستقبل أفضل. لذلك لا بد للدول العربية من وضع «التصور الاستراتيجي المشترك» المبني على قناعة بأهمية التكامل بين الدول والإدراك بعدم وجود أي تناقض بين قوة الدولة وقوة المجتمع وصلابة الاقتصاد، بل هي علاقة تكاملية لصالح التنمية والتكامل الاقتصادي ورص الصف القطري والعربي.
ليبدأ التغيير من خطابات القادة والمشاركين التي طرحت عددا من الأسئلة أولها: ما سبب تراجع الأمة عن باقي الأمم وما المعوقات والتحديات ولماذا تستمر هذه المعوقات دون حل وعلى مدى أكثر من ثمانين عاما؟ كما علينا أن نتساءل كيف يكون رص الصف العربي؟ وما عناصر القوة التي على الأمة امتلاكها لتلبي طموح القادة والشعوب؟ إن التعامل مع هذه الأسئلة والتحديات والمعوقات وغيرها بعقلية منفتحة ورغبة صادقة وعزيمة قوية هي الأساس الذي ينبغي الانطلاق منه في وضع «التصور الاستراتيجي المشترك» التي دعا لها القادة، ورهنوا مستقبل الأمة بتنفيذ متطلباته.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك