خلال الأشهر السبعة الماضية تمادت إسرائيل في وحشيتها ضد المدنيين الفلسطينيين؛ ما أدى إلى تصاعد الغضب العالمي، والإدانة الدولية لسياسة حكومتها اليمينية المتطرفة، وزاد في الوقت ذاته من التعاطف مع محنة الفلسطينيين. ولم يقتصر الأمر على تعزيز الجهود الرامية إلى محاسبتها أمام القانون الدولي -من خلال تحقيقات «محكمة العدل الدولية»، التي وجهت إليها اتهامات بالإبادة الجماعية، وطلب مدعي «المحكمة الجنائية الدولية»، إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس وزرائها، ووزير الدفاع - بل تم الاعتراف أيضًا بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وإقامة دولتهم من قبل الدول الغربية.
وفي أعقاب قرار العديد من الدول الأوروبية دعم التصويت على العضوية الكاملة لفلسطين في «الجمعية العامة للأمم المتحدة» يوم 10 مايو 2024، أعلنت دول أوروبية، وهي «إسبانيا»، و«النرويج»، و«أيرلندا» في 22 مايو، الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، على اعتبار أن القيام بذلك يبقى «السبيل الوحيد لحماية حل الدولتين، ومنع ضم إسرائيل لكامل الأراضي الفلسطينية».
ورغم تأكيد المحللين الغربيين مثل «جيمس لانديل»، من شبكة «بي بي سي»، عدم قدرة هذه الإجراءات وحدها في «التغلب على الواقع»، المتمثل فيما تواجهه الدولة المستقبلية من «عقبات كبيرة» -وهو الأمر الذي أكده «غالانت»، في نفس اليوم الذي صدرت فيه تصريحات «مدريد»، و«أوسلو»، و«دبلن»؛ حيث صدر أمر يسمح للمستوطنين الإسرائيليين بالعودة إلى ثلاث مستوطنات في الضفة الغربية– إلا أن هذه القرارات الدبلوماسية تضيف قدرا من الزخم المتزايد للحكومات الغربية لاتخاذ إجراءات سياسية حاسمة في مواجهة خروقات إسرائيل للقانون الدولي. ومع إعراب العديد من الدول الأوروبية الصغيرة الأخرى عن رغبتها في الاعتراف قريبًا بدولة فلسطين؛ فمن المتوقع أن يتزايد الضغط على الدول الأكثر نفوذا، مثل فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، للوفاء بالتزامها بحق جميع شعوب العالم في تقرير مصيرها.
ويعود السبب الرئيسي لقيام الدول الأوروبية الثلاث بالاعتراف الكامل باستقلال دولة فلسطين إلى الغضب العالمي من سلوك إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وعدم رغبة أهم حلفائها في الغرب -الولايات المتحدة - باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع هذه الانتهاكات. وعلى النقيض من الدفاعات الواهنة عن سياساتها المتطرفة التي قدمها المسؤولون الغربيون؛ اتهم «بيدرو سانشيز»، رئيس الوزراء الإسباني، «نتنياهو»، مباشرة بتنفيذ «مذبحة» في غزة، وحث الدول الأوروبية الأخرى على «استخدام جميع الأساليب السياسية المتاحة»، للقول «بصوت عال وواضح»، إنها «لن تسمح بتدمير إمكانية حل الدولتين من خلال القوة»، مؤكدا الاعتقاد بأن هذا هو «الحل الوحيد العادل والمستدام لهذا الصراع».
وعلى نحو مماثل، أشار رئيس الوزراء النرويجي «جوناس جار ستور»، إلى الكيفية التي يتعين علينا بها، «في خضم حرب مدمرة»، أن نحافظ على البديل الوحيد الذي يقدم «حلا سياسيا»، للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء؛ أي «دولتان تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمان». وعلق «مايكل مارتن»، وزير الخارجية الأيرلندي بالقول: «نعتقد في المستقبل أنه يجب على الطرفين أن يلتقيا على قدم المساواة كدولتين، مع التحلي بمسؤولية التوصل إلى تسوية نهائية خلال المفاوضات المباشرة».
ورغم اعتراف 140 دولة من أصل 193 عضوا في «الأمم المتحدة»، فعليا بالدولة الفلسطينية، إلا أن القليل منها من الدول الأوروبية حاليا. وأقدمت على ذلك بولندا، ورومانيا، والمجر، والتشيك، وسلوفاكيا إبان الحكم الشيوعي في 1988، وتبقى السويد البلد الوحيد التي فعلت ذلك أثناء عضويتها في الاتحاد الأوروبي عام 2014.
في ضوء ذلك، أشار «لانديل»، إلى كيف يتوقع قادة إسبانيا، والنرويج، وأيرلندا، أن يقود اعترافهم بالدولة الفلسطينية إلى «بدء عملية سياسية» عبر بقية القارة؛ مبنية على فكرة «عدم تحقق الحل المستدام للأزمة الحالية، إلا إذا تمكن الجانبان من الاتفاق على أفق سياسي». ودعمًا لهذا التقييم، علق «باري أندروز»، العضو الأيرلندي في البرلمان الأوروبي، قائلاً: إنه «من المهم الآن بالنسبة للمجتمع الدولي وخاصة الاتحاد الأوروبي»، الاعتراف بالدولة الفلسطينية على أساس حدود الرابع من يونيو عام 1967 «إذا ابتغينا رؤية فرصة للسلام وحل الدولتين».
وفي حقيقة الأمر، تقف العديد من الدول الأوروبية الأخرى على أعتاب الاعتراف بفلسطين، من بينها «سلوفينيا»، التي تحدث رئيس وزرائها «روبرت جولوب»، عن استعداده للقيام بذلك «في الأيام المقبلة»، و«باولو رانجيل»، وزير خارجية البرتغال الذي أعلن رغبته في انتظار «اللحظة الأكثر ملاءمة لاتخاذ هذه الخطوة». ومع إشارة «لانديل»، إلى كيفية تأثر الحكومات الإسبانية، والنرويجية، والأيرلندية «بالضغوط السياسية الداخلية المتزايدة لإظهار المزيد من الدعم للفلسطينيين»، فمن الجدير بالملاحظة رؤية كيفية اتحاد «أحزاب المعارضة البلجيكية»، لزيادة الضغط على حكومتها الفيدرالية لاتخاذ إجراءات في هذا الصدد، بالإضافة إلى تأكيد وزيرة الخارجية البلجيكية «حجة لحبيب»، بالفعل رغبتها في تجاوز «الاعتراف الرمزي» بالدولة الفلسطينية والوصول إلى إحداث تغيير دبلوماسي أوسع نطاقًا في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي.
ومن الطبيعي أن يلفت هذا المعدل المتسارع للاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل الدول الأوروبية، «الانتباه»، إلى تأثيره على جذب دول أكبر وأكثر نفوذًا للقيام بالخطوة نفسها، لا سيما أولئك الذين صوتوا لصالح الموافقة على عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، بما في ذلك فرنسا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا. وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الفرنسي «ستيفان سيجورني»، استبعد الاحتمال الفوري لانضمام حكومته إلى الاعتراف بفلسطين، فقد أكد أن هذا الأمر ليس «من المحرمات»، وهو ما صرح به الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، في وقت سابق في فبراير. ومع ذلك، فإن إصرار «سيجورني»، على أن الوقت الحالي، ليس «الوقت المناسب» لاستخدام هذه «الأداة الدبلوماسية»، يشير إلى احتمالات تغير موقف باريس على المدى الطويل.
من جانبه، أوضح «لانديل»، أن «نقطة النقاش الرئيسية»، بالنسبة للدبلوماسيين الأوروبيين، تتعلق بتوقيت الاعتراف بالدولة الفلسطينية، سواء في حال تم «البدء بمحادثات السلام الرسمية بين الإسرائيليين والفلسطينين»، أو عندما يتم «تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والعديد من الدول العربية»، أو إذا «فشلت إسرائيل في اتخاذ إجراءات معينة» نحو سلام طويل الأمد، أو عندما يفي الفلسطينيون أنفسهم بمعايير كانوا لا يقبلون بها في بادئ الأمر. وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية لا تزال منقسمة حول الوقت المناسب للاعتراف بفلسطين؛ فقد أشار «بيتر بومونت»، و«سام جونز»، في صحيفة «الجارديان»، إلى أن العنصر «الأكثر أهمية» في هذه التطورات الدبلوماسية الأخيرة هو «تآكل»، اهتمام «واشنطن»، بعملية السلام في الشرق الأوسط، بجانب «انعدام الثقة فيها، إزاء دورها كوسيط في الصراع الراهن، والذي تجلى من خلال اندفاع العديد من الدول الأوروبية للحصول على دعم أكبر لإقامة الدولة الفلسطينية.
ويبقى التساؤل عن مدى تأثير اعترافات الدول الأوروبية الثلاث على إسرائيل، والاعترافات المحتملة اللاحقة من دول أخرى، بشكل إيجابي على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وفي حين رأى «هيو لوفات»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن «الاعتراف هو خطوة ملموسة نحو مسار سياسي قابل للحياة يؤدي إلى تقرير المصير الفلسطيني»؛ فقد رأى «لانديل»، أن مثل هذه الإجراءات تظل «لفتة رمزية» إلى حد كبير، ذات تأثيرات محدودة على سلوك إسرائيل وهمجيتها. وبعد أن صرح وزير الخارجية الإسرائيلي «يسرائيل كاتس»، بأن إسبانيا، والنرويج، وأيرلندا، اختارت «مكافأة حماس وإيران»، عبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية؛ فقد استدعى بالفعل سفراء بلاده من أوسلو ودبلن. ومع تحذير «نتنياهو»، أيضا من «عواقب وخيمة» بالنسبة لأولئك الذين يعترفون بحق تقرير المصير للفلسطينيين، فليس غريبا أنه في نفس يوم إعلان هذه الاعترافات، تراجعت إسرائيل عن اتفاقها لعام 2005، بإخلاء ثلاث مستوطنات غير قانونية في الضفة الغربية، وبالتالي أظهرت مرة أخرى كيف أنها لا تبالي بالقانون الدولي، أو قرارات الأمم المتحدة، أو إقامة تسوية سلمية مع الفلسطينيين.
وبينما سلط «بومونت»، و«جونز»، الضوء على عدد الإسرائيليين الذين «يدركون أن بلادهم يتم التعامل معها على أنها «منبوذة»، وستصبح بمرور الوقت، «معزولة دبلوماسيا» بشكل متزايد؛ يجب أن يكون معلوما أن «نتنياهو»، و«جالانت» وغيرهما من أعضاء جناح اليمين المتطرف بالحكومة الائتلافية، لا يهتمون بالانتقادات الخارجية، وعازمون على المضي قدما في مسار عملهم ضد الشعب الفلسطيني بغض النظر عن عواقب ذلك.
ونتيجة لذلك، أكد الباحثان أن «الزخم الجديد نحو الاعتراف»، يمكن أن يكون «سيفا ذا حدين»، بالنسبة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية؛ لأنه، في حين أنه قد «يساعد في إعادة الحياة» للمجتمع المدني الفلسطيني«، فإن حقيقة أن هذه الإجراءات لن تغير الظروف البائسة في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، وبالتالي تأثيرها الحقيقي على تغيير الواقع في فلسطين سوف يتضاءل.
وعلى الرغم من أن التعنت المستمر للحكومة الإسرائيلية من خلال استمرار تدمير غزة، واحتلال الأراضي الفلسطينية، لن ينتهي باعتراف أوسع بالدولة الفلسطينية من قبل الدول الأوروبية والغربية؛ فقد أكد «بومونت»، و«جونز»، وآخرون أن هذه الموجة الجديدة من الاعترافات، تعكس «قبولًا أوسع»، بأن لدى الفلسطينيين «حقًا صريحًا وأساسيًا في تقرير المصير لا يتطلب إذنًا من إسرائيل»، وهو أمر يتعارض مع الفكرة التي «عززت الوساطة الأمريكية»، منذ اتفاقيات أوسلو في فترة التسعينيات. وحتى مع استمرار «واشنطن» في الادعاء بأنها «مؤيد قوي» لحل الدولتين، لم يتم اتخاذ أي إجراء لتحقيق هذه الغاية، وخاصة مع عدم اهتمامها بالتوصل إلى تسوية سلمية.
على العموم، على الرغم من أن الحكومات الحالية في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا وغيرها لا تزال تقاوم اتخاذ مثل هذه الخطوات الملموسة للاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، والتمتع بالأمن؛ فإن الآثار طويلة المدى لحرب إسرائيل في غزة، وتراجع السمعة الدولية لها بشكل حاد، وتصلب الأصوات المطالبة بالمساءلة الدولية ضدها؛ تعمل على تزايد التعاطف مع محنة الفلسطينيين، والرغبة في ترسيخ اعتراف الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية.
وبعد استشهاد «لانديل»، بأن القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية الرئيسية في الغرب «تريد أن يكون الاعتراف بدولة فلسطين بمثابة «لحظة كبرى»، تهدف إلى تحقيق نتائج «دبلوماسية واضحة»؛ فإن النهج الأكثر واقعية الذي تتبعه الحكومات الأخرى لتحقيق السلام والأمن، ينعكس الآن في إصرار «سانشيز»، على أن «الوقت قد حان للانتقال من الأقوال إلى الأفعال».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك