في أعقاب الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، بزغت شعاعات الأمل في الأفق، كنجوم تنير ظلام الليل الحالك، مُنذرة بفجر جديد ينسج من خيوط الذهب. هذا الفجر يحمل في طياته قيم الإنسانية والعدالة، ويعلن بداية حقبة جديدة قد ترسخ للأمل والتغيير، لكن الواقع يكشف أحيانا عن وجه آخر للإنسانية؛ فعلى الرغم من التقدم والتحضر، لا يزال الإنسان يخفي بين ضلوعه بذور الوحشية البدائية.
في قلب هذه المعادلة، تقع غزة، المدينة التي تتربع كتاج على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، تحمل تراثا غنيا وتاريخا عريقا بحضارات متعاقبة، كلوحة فنية تحكي قصص الأمم. هي القلب النابض لفلسطين، الذي يواجه يوما بعد يوم تحديات جسام، كصخور صلبة تتحدى عواصف الزمان بروح لا تعرف الكلل وعزيمة لا تقهر. في ظل الحصار وسنوات اللهب والعدوان الممنهج، تظهر غزة المعنى الحقيقي للبسالة كمحارب قديم يرفض الانكسار، لتصبح رمزا ومدرسة تعلمنا وتوجهنا إلى معاني الثبات والاستمرارية في المطالبة بالحقوق.
إيمان سكانها بعدالة قضيتهم يمثل بالنسبة لهم فردوسا أبديا. هؤلاء هم اصحاب القضية، من خلال نضالهم، نكتشف كيف يمكن للتاريخ أن يستغل ويحرف لتبرير الاستبداد. عزيمتهم تنسج من معاناتهم رواية متينة من الصمود والمقاومة، تتجدد مع كل جيل كالفينيق الذي يولد من رماده. الأطفال والشيوخ، الرجال والنساء، يقفون جنبا إلى جنب في وجه الأزمات، يحولون ألمهم إلى نور، ومن الدموع يصنعون دوافع لاستمرار الحياة. العالم يشهد، وكأن المدينة تصرخ في صمت: “إن الحق لا يموت بالظلم، والظلم لا يدوم بالحق”. تلك هي الرسالة التي ترسلها غزة إلى العالم أجمع، مُعلنة أنه لا تزال هناك قلوب تنبض بالتفاؤل والعزيمة رغم الألم والخراب.
من أعماق الأراضي الفلسطينية، حيث تعلو أصوات قذائف العدو فوق الأزقة والشوارع، يعيش أطفال يتجاوزون ببراءتهم ظلام الحروب وبربرية العصر. هؤلاء الأطفال، رغم صغر سنهم، يحملون فوق أكتافهم وزر القضية وأثقالها، متحدين المصاعب بقلوب تفيض بالأمل والثبات. يعاني واحد من كل ستة أطفال دون سن الثانية من سوء التغذية الحادة بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، إلى جانب من فقدوا أرواحهم وتهشمت أجسادهم تحت نيران القذائف أو أثناء محاولتهم جمع المساعدات التي هم في أمس الحاجة إليها والتي تم إسقاطها جواً. ولا ننسى الآلاف ممن يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة كما تشير المنظمات الإنسانية.
على الرغم من الدمار والرعب الذي يحيط بهم، من جوع ومنازل مهدمة ومدارس مدمرة وصدمات نفسية جراء قذائف لا ترحم تتجلى قدرتهم الفائقة على الصمود، وكيف يتحولون إلى رموز للإرادة والشجاعة. ليست الجراح التي تعتريهم مجرد علامات على أجسادهم، بل هي شهادات حية على ازدواجية المعايير العالمية والكيل بمكيالين، تتردد أصداؤهم في العالم كجرس إنذار لإيقاظ الضمائر النائمة وتحدي اللامبالاة العالمية.
أطفال غزة، ببريق أعينهم وقلوبهم النابضة، يعيدون تعريف مفاهيم البطولة والقوة في قواميس كانت تفسر بعكس معناها. تبرز قوتهم كنور يتحدى الظلام، ينير دروب اليأس ويمنح الأمل لكل من يُقدم ويشهد رحلتهم. يظهرون كيف يمكن للأمل أن ينبت في أقسى الظروف، وكيف للروح الصغيرة أن تحمل أعظم الدروس.
في عالم يقف عاجزًا، وأحيانًا يبرر آلة القمع، يواصل هؤلاء الأطفال كشهود على التاريخ، يفضحون دعاة الإنسانية المزيفة الذين يتشدقون بالقيم ويتجاهلون الجرائم، ملهمين الأجيال بأن العدل يستحق الكفاح وأن الحقيقة مهما طال الزمن، فستجد طريقها إلى النور.
رغم ما تروجه بعض وسائل الإعلام العالمية، التي غالبًا ما تعتمد على نرجسية الأخبار بدلًا من الوقائع، ومساعيها لتشويه الحقائق، تعلو صيحات من شتى أنحاء العالم، أصوات تمثل شعوبًا وأفرادًا يتحركون بإيمان عميق بالقيم الإنسانية. هؤلاء لا تقيدهم الأيديولوجيات أو الولاءات السياسية؛ بل يسعون لتحقيق العدالة والحق بقلوب تنبض صدقًا. يجتازون بتضامنهم الحدود الجغرافية والثقافية، ليؤكدوا للعالم أن الحرية والعدالة ليستا مجرد قيم محلية، بل هما ركنا الأمان العالمي الذي يوحد شمل الإنسانية عبر تعاطف عميق ورغبة صادقة في رؤية عالم يسوده السلام والإنصاف.
هذه الجماعات، بتكاتفها، تشكل قوة ملهمة تعيد صياغة مسار التاريخ، حيث تسود الرحمة والعدل على سلوكيات الأنانية والتشرذم الأخلاقي. وبوقفتهم الثابتة ضد الظلم، يرسلون بأفعالهم رسالة قوية وواضحة: أن العالم يمكن ويجب أن يكون أفضل. تأثير هذا التضامن يتجلى في تعزيز الوعي العام ودفع عجلة التغيير الحقيقي في السياسات والمجتمعات، ملهمين الآخرين للانضمام إلى حركتهم ومضيئين شرارة الأمل في القلوب. إنهم يظهرون بأن الإيمان بالقضايا العادلة يملك قوة تحريك الجبال، معلنين بصوت واحد أن العدالة والسلام ليسا فقط رغبة، بل هما حق أساسي يستحقه كل إنسان.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك