خلال العقود الماضية تسارعت العلاقات بين «الصين»، ودول «مجلس التعاون الخليجي»، بناءً على عقود من التجارة في النفط والغاز الطبيعي، وتعزيز كل منهما التعاون عبر مجموعة المجالات، مثل «الطاقات المتجددة»، و«البنية التحتية الحيوية»، و«الذكاء الاصطناعي». وبالنسبة إلى الولايات المتحدة -التي تُعد منذ فترة طويلة الشريك الاقتصادي والأمني الرئيسي لدول الخليج - فإن تزايد النفوذ الإقليمي لأبرز منافسيها الجيوسياسيين، يمثل «مخاوف واضحة»، كما جاء بشهادة «جون ألترمان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، أمام الكونجرس الأمريكي في أبريل 2024.
ومع إشارة «ألترمان»، إلى كيف شهد الشرق الأوسط، «خيبة أمل متزايدة تجاه الولايات المتحدة» -والتي تفاقمت بسبب فشلها في احتواء العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين على غزة منذ أكتوبر 2023- فقد قارن ذلك بـ«الإعجاب العميق بالنمو الاقتصادي في الصين»، و«القيمة اللاحقة للشراكات معها بشأن التنامي الاقتصادي المتبادل».
وعلى الرغم من أن زيادة مشاركة «بكين»، بدبلوماسية الشرق الأوسط، وأبرزها توسطها في مارس 2023 في اتفاق عودة العلاقات بين السعودية وإيران؛ إلا أن «كاميل لونز»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، ترى أنه بالرغم من «ازدهار» تلك العلاقة خلال السنوات الأخيرة؛ إلا أنها تبقى «أقل تطوراً نسبيا»، مقارنة بعمر الدور الأمريكي في المنطقة.
ويمثل صعود «الصين» في الشؤون الاقتصادية والسياسية بالمنطقة، «امتدادا»، لمنافستها القائمة مع «الولايات المتحدة»، والتي تتجلى على نحو مماثل في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا. ونتيجة لذلك، سعت «واشنطن»، إلى اتخاذ موقف متشدد ضد التدخل الصيني في شؤون دول الخليج، وعلى الأخص في مجال التكنولوجيا، حيث تنخرط شركات كلا البلدين في منافسات قوية على الشراكات والعقود لتطويرها مع السعودية، والإمارات، وقطر، والبحرين، والكويت، وعُمان.
وفي تقييمها للعلاقات بين «الصين»، و«الخليج»، رأت «لونز»، أن تجارة الطاقة مع «بكين» -أكبر مستورد للنفط في العالم بإجمالي 11.3 مليون برميل يوميًا عام 2023 بزيادة قدرها 10% عن عام 2022- كانت أساس نمو العلاقات الصينية- الخليجية. ومع ذلك، فقد أشارت إلى أن «بكين»، التي كانت في العِقد الماضي «عميلًا متحفظًا في مجال الطاقة، ومترددًا بشأن التدخل بسياسات الشرق الأوسط»، أضحت «لاعبًا رئيسيًا»، في المشهد الجيوسياسي في الخليج». وفي حين أن «العامل الاقتصادي»، يعد محوريا في هذا الشأن، فإن «البعد الاستراتيجي»، فيما يتعلق بالتغيرات في النظام السياسي العالمي له تأثير أيضًا.
ومع إشارة «ألترمان»، إلى عبور حوالي 60% من تجارة الصين إلى أوروبا وإفريقيا، عبر الإمارات وحدها، فمن الجدير بالملاحظة دخول دول الخليج أيضًا في شراكة مع «بكين»، في مبادرة «الحزام والطريق» الرائدة، والتي تشمل مساهماتها في البنية التحتية الرئيسية؛ مشاريع مثل محطة حاويات بميناء خليفة في أبو ظبي، وأجزاء من موانئ سعودية بالبحر الأحمر في جدة، وجازان، وينبع.
وفي الآونة الأخيرة، مع تحويل «الصين»، اهتمامها تدريجيا بعيدا عن «البنية التحتية المادية»، نحو التركيز على «المجال الرقمي»، كانت هناك شراكات مع دول الخليج، حول «تطوير الذكاء الاصطناعي»، و«استخراج المعادن الحيوية»، و«إنتاج الطاقة المتجددة». وفيما يتعلق بالأخيرة، تمت الإشارة إلى استحواذ «صندوق طريق الحرير المملوك للصين»، على حصة 49% من شركة «أكوا باور» السعودية للطاقة المتجددة عام 2020. وفي عام 2023، وقعت «الرياض»، صفقة بقيمة 5.6 مليارات دولار مع شركة صناعة السيارات الكهربائية «هيومان هورايزونز» للبحث وتطوير وإنتاج وبيع المركبات داخل المملكة. وعليه، أشار «ألترمان»، إلى «سعي الصين إلى تصوير نفسها كشريك استراتيجي أساسي للسعودية»، من خلال تسويق فكرة ما تحمله التجربة الصينية في النمو الاقتصادي، بالنسبة لمشروع «رؤية السعودية 2030» الطموح.
وانطلاقًا مما سبق، أدركت «لونز»، كيفية ارتكاز سياق العلاقات على النظرة المتزايدة إلى كل من «الرياض»، و«أبو ظبي»، باعتبارهما «قوتين رئيسيتين صاعدتين وسطيتين»، مدعمتين بنفوذ إقليمي ودولي، وبالوقت نفسه كيف تُبدي «بكين»، المزيد من «الحزم والطموح على المسرح العالمي»، في خضم منافسة أيديولوجية واقتصادية شرسة مع «واشنطن». وفي إطار سعيها لتأكيد تزايد طموحها على المسرح العالمي؛ يوفر كل ذلك لها سبيلا لاهتمام مشترك مع دول الخليج.
وفي ضوء هذه الديناميكيات، أشارت «لونز»، إلى كيف أن «الحروب في أوكرانيا وغزة»، لم تؤد إلا إلى «تسريع» هذه العملية. وأظهر نظام العقوبات الاقتصادية الذي تقوده «واشنطن»، ضد «موسكو»، أنه يمكن استخدامه ضد دول أخرى في ظل غياب أي معايير، ومن غير المستغرب أن تؤدي إدارة «الولايات المتحدة»، للحرب الإسرائيلية على غزة -على الرغم مما تسببت فيه من خسائر فادحة بين المدنيين والتسبب في كارثة إنسانية جماعية - إلى «زيادة تآكل الشرعية الغربية في الشرق الأوسط». وأشار «ألترمان»، إلى أن احتمال إقامة علاقات أوثق مع «بكين» ربما يوفر لها الوسائل اللازمة لوضع «سقف لمدى نمو العلاقات الإيرانية الصينية الوثيقة»، ومما يطمئن دول الخليج في هذا الشأن «تأكيدات بكين أنها لن تقدم المصالح الإيرانية في المحافل الدولية».
ومع ذلك، أكدت «لونز»، و«ألترمان»، ضرورة وجود «حدود واضحة»، لتدخل الصين في الشؤون الإقليمية. وفي حين أشارت الأولى إلى وساطتها -المذكورة أعلاه- بين الرياض وطهران، باعتبارها رمزًا لـ«نظام عالمي متغير، وتراجعا للدور الأمريكي في الشرق الأوسط»؛ فقد لاحظت أيضا «تناقضات في موقفها الرامي للاستقرار»، وكيف أنها أظهرت «نهجا متحفظا»، تجاه التهديدات بشن هجمات من قبل الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، والحرب على غزة.
وفيما يتعلق بالنهج الأمريكي الحالي تجاه دور الصين المتزايد في الشرق الأوسط، والذي يتضمن منع بيع التقنيات والأنظمة التي تخشى «واشنطن»، نقلها بشكل غير مباشر إلى الشركات الصينية؛ أشار «ألترمان»، إلى كيفية قيام المشرعين بضرورة حث «الولايات المتحدة»، على أن تُقدر بشكل أفضل تركيز «الصين»، على «المنافسة غير المتكافئة» في الشرق الأوسط، والتي تختلف عن سياسات منافستها الاقتصادية العالمية مع النظام الدولي التي تقوده الدول الغربية.
ومع تأكيد «استطلاعات الرأي»، ارتفاع شعبية الصين في الشرق الأوسط، وانخفاض مستواها بالنسبة إلى الولايات المتحدة في المنطقة؛ أشار «ألترمان»، إلى الكيفية التي ينبغي بها للسياسة الخارجية الأمريكية أن «تركز بشكل أقل على قضايا ذات الأيديولوجيات السياسية». وبصورة أكثر على حقيقة أن «تنمية رأس المال البشري هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للمنطقة من خلالها اجتياز عملية تحول الطاقة برمتها وتبعاتها». وفي هذا الصدد، أكد أن «القيمة العليا للتعليم والتدريب والتقنيات والأبحاث الغربية»، مقارنة بتلك القادمة من الصين «لا يمكن تجاهلها»، وبالتالي فهي «ميزة استراتيجية قوية» لواشنطن وحلفائها لجذب دول الخليج؛ للدخول في شراكة أوثق معهم، بدلاً من بكين.
ومع ذلك، وردا على المفاوضات الأمريكية مع الشركاء المحتملين بشأن المنافسة بالمجالات التكنولوجية، اعتبر «محمد سليمان»، من «معهد الشرق الأوسط»، موافقة «مايكروسوفت» على استثمار 1.5 مليار دولار في «جي 42» الإماراتية؛ قد تمت برعاية أمريكية في محاولة للحد من حصول الصين على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فضلا عن أن هذه الصفقة يمكن أن تكون «نموذجا» للتعاون مع دول الخليج الأخرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتقنيات التكنولوجية.
وعلى الرغم من ذلك، حذر «ألترمان»، من أن «بكين»، أصبحت قادرة على «التنبؤ بما ستفعله واشنطن، وأنواع الشروط والقيود التي ستفرضها، والجدول الزمني الذي ستقدمه، بشأن أي من مشروعاتها العملاقة»، وذلك يفسر «لماذا عروضها أفضل»، بحيث يمكنها التفوق على منافسيها. وبالتالي، وبعيدا عن تقدم «الولايات المتحدة»، بصورة واضحة على «الصين»، فقد أدى تصاعد المنافسة وشروط صفقات الشراكات التكنولوجية إلى إضافة تعقيدات استراتيجية مع عواقب اقتصادية إضافية.
وبالإشارة إلى أن «الاتحاد الأوروبي»، يعد ثاني أكبر شريك تجاري لدول الخليج، ويمثل (12.3% من إجمالي تجارة السلع لها مع العالم عام 2020، وذلك بعد الصين التي تبلغ سلعها لهذه الدول 15.8%)؛ فليس غريبا أن تحرص الدول الأوروبية أيضًا على تعزيز الوضع الاقتصادي والسياسي المتنامي مع دول الخليج؛ لتحقيق أقصى استفادة استراتيجية لها. وفيما يتعلق بديناميكيات العلاقات الخليجية - الصينية؛ رأت «لونز»، أن «بروكسل»، بالكاد لديها «أوراق ضغط» لتزويدها بدور أكثر تأثيرًا مع دول الخليج.
وعلى النقيض من النهج الأمريكي، خلصت «لونز»، إلى أنه «ليس من الممكن أو المرغوب فيه»، أن تحاول الدول الأوروبية «مواجهة نفوذ الصين في الشرق الأوسط»، لاسيما مع الحقيقة المتمثلة في أن الأخيرة «شريك لا مفر منه»، بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي في معالجة قضايا «الأمن المناخي»، و«منع الانتشار النووي»، و«حماية طرق التجارة البحرية». وبدلاً من تلك المواجهة، شددت على أهمية عمل أوروبا على «بناء شراكاتها الفعالة» مع السعودية، والإمارات ودول الخليج الأخرى.
وبهذا المعنى، أشارت «سينزيا بيانكو»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، إلى أن مقاييس «رؤية 2030»، تمنح المملكة «فرصًا جذابة للتجارة والاستثمار والتواصل»، وهو ما جعلها تحث المسؤولين في «بروكسل»، والعواصم الأوروبية الأخرى على ضرورة «إعادة ضبط» نهجها الدبلوماسي؛ للتركيز على القضايا العالمية، مثل «الأمن المناخي»، و«إنهاء الحرب في غزة»، و«تحول الطاقة»، فضلاً عن ضرورة الاعتراف بمصالح دول الخليج.
وفي حين رأت «لونز»، أن العلاقة بين «الصين» من ناحية، و«دول الخليج» من ناحية أخرى، «لم تتطور بشكل كامل»، فقد اعترفت بأن نمو واستمرار العلاقات عبر مجالات متعددة من التعاون والمصالح المشتركة، يعكس أن الشرق الأوسط والعالم الأوسع نطاقا، «يتغير تحت ضغوط المخاطر، والتحولات الجيوسياسية المتزايدة، والمنافسة الشرسة».
على العموم، يرى المعلقون الغربيون أن دول الخليج تقع ضمن نطاق «القوى المتوسطة الصاعدة ذات النفوذ الإقليمي والدولي المتزايد». وبالتالي، فإنها في وضع قوي لاختيار شركائها العالميين، وتجنب الانضمام إلى أي من المعسكرين العالميين، على عكس الدول الأصغر حجما، والأقل نموا اقتصاديا في أوروبا، وآسيا، وإفريقيا. ولتحقيق هذه الغاية، رأى «ألترمان»، أنه سيكون «من الخطأ»، ألا تتوقع «واشنطن»، أن تقوم هذه الدول «ببناء علاقة وثيقة مع بكين، أكبر مستورد للنفط الخام في العالم». وبالفعل، أشار إلى أن «الإمارات»، و«السعودية»، لديهما «وعي كبير وقوي لتعزيز مصالحهما الخاصة.
وبشكل عام، ترى «لونز»، أن العلاقات بين الصين ودول الشرق الأوسط، لا تزال «محدودة نسبيًا»، مقارنة بالعلاقات الثنائية والمتعددة مع الأطراف الدولية الأخرى. ومع ذلك، يظل التعاون مع الدول الأوروبية «الأكبر من نوعه»، و«الأجدر على الاستمرار» إلى حد كبير، لاسيما وأن علاقات دول المنطقة مع «بكين»، و«واشنطن»، تظل دون مستوى التعاون الأوروبي- الخليجي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك