توفي عضو الكونجرس الأمريكي السابق بيت مكلوسكي هذا الشهر عن عمر يناهز 96 عاماً. لقد كان الفقيد بطلاً بأتم معنى للكلمة. فقد كان شجاعاً ومثالا يحتذى به من حيث نكران الذات في ساحة المعركة، بقدر ما كان جريئا ومبدئياً في المناصب الانتخابية، ومدافعاً عن العدالة والإنصاف، وفي جميع الحالات، صادقاً حتى عندما دفع ثمن التحدث عن ذلك علناً.
احتل بيت مكلوسكي مكانة عالية في الوعي الجمعي الوطني في عام 1967، بعد وفاة العضو السابق وأصبح مقعده شاغرا، حيث نجح في الفوز في الانتخابات النيابية الجزئية الخاصة بالكونغرس، وقد تنافس في تلك الانتخابات مرشحان جذبا الانتباه.
كان الخصم الرئيسي لبيت هي النجمة السينمائية السابقة شيرلي تمبل بلاك. لم تكن تلك المرشحة «محبوبة أمريكا» فحسب، بل حظيت بتأييد زميلها الممثل رونالد ريغان، النجم الصاعد في السياسة على مستوى ولاية كاليفورنيا، ولعل ما أثار الاهتمام أن بيت كان عقيدًا بحريًا حاصلًا على جوائز عالية، وقد ترشح لخوض تلك الانتخابات الجزئية حيث عرف بمواقفه المنهضة لحرب فيتنام.
لم يكتف بيت بالفوز في تلك الانتخابات، بل إنه حقق الفوز بعد ذلك وأعيد انتخابه بعد ذلك سبع مرات أخرى متتالية التالية، وقد أرسل ذلك الفوز، وهو الأول الذي يحققه معارض جمهوري لحرب فيتنام، موجات من الصدمة عبر الكونجرس، وبعث برسالة إلى زملائه والمرشحين المستقبليين مفادها أنه من الممكن الفوز بالانتخابات من خلال معارضة الحرب في فيتنام.
وبمجرد وصوله إلى الكونجرس، واصل بيت مكلوسكي تحدي حزبه والأمة بأكملها، بصفته حاصلًا على اثنتين من أعلى الجوائز التي يمنحها الجيش الأمريكي للبسالة وجائزتين أخريين من صنف القلوب الأرجوانية، حيث عاش بيت مكلوسكي أهوال القتال واضطر إلى معارضة الحرب التي أودت بالفعل بحياة الكثير من الأشخاص ولم يكن يمكن للولايات المتحدة أن تخرج منتصرة منها.
كان بيت مكلوسكي يعارض سياسة الرئيس ريتشارد نيكسون بالاستمرار في تلك الحرب المدمرة وبعد انتخابات عام 1972 - عندما تم الكشف عن أن الرئيس آنذاك أمر عملاء سريين باقتحام مقر خصمه الديمقراطي ثم حاول التستر على هذه الجريمة وهو ما كان يعرف بفضيحة «ووترجيت» أصبح بيت مكلوسكي أول جمهوري في الكونجرس يدعو الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة من منصبه.
التقيت بيت مكلوسكي لأول مرة بعد بضع سنوات في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وفي ذلك اللقاء الأول علمني درسًا لم أنسه أبدًا. لقد بدأت حملة حقوق الإنسان في فلسطين وكنت أبحث عن أعضاء في الكونغرس لدعم قضايا ضحايا انتهاكات الحقوق من الفلسطينيين.
ونظرا الى علمي التام بأن بيت مكلوسكي كان مدافعًا شجاعًا، فقد ذهبت لمقابلته. وبما أنني كنت شابًا يافعا متحمسًا في تلك الفترة، فقد جلست يومها قبالته وبدأت على الفور في الحديث عن تفاصيل القضية التي أدافع عنها.
وفي مرحلة ما خلال ذلك اللقاء، حكى لي بيت مكلوسكي نكتة مضحكة غير أن ذلك لم يثننِ عن المضي قدما في طرح القضية التي أدافع عنها. عندها توقف وسألني عن رأيي فيما قاله. أجبته بأن ما كنت أقوله لا يخلو من الجدية.
عندها قاطعني بيت مكلوسكي مرة أخرى قائلا:
سأقول لك ما هو جدي. لدي أنصار في منطقتي كانوا أصدقاء لي عدة سنوات، وسوف ينزعجون إذا علموا أنني سأجتمع معك لمناقشة الحقوق الفلسطينية. أنت لا تعرفني، لكن تريد مني أن أتخذ موقفًا بشأن شيء من شأنه أن يسيء إليهم. لماذا لا تفكر في ذلك، وتتمتع بروح الدعابة، وتعود لرؤيتي مرة أخرى؟».
لقد أبديت دهشتي من كلامه ثم ما لبثت أن غادرت المكان. وبعد التأمل فيما قاله بيت مكلوسكي، لم أتعامل قط مع مسؤول منتخب آخر بنفس الطريقة. لقد تعلمت أنه من المهم بناء العلاقات والتعرف على الأشخاص الذين تريد التأثير عليهم والسماح لهم بمعرفتك. كانت هذه هي الطريقة التي نجح بها والدي في متجر البقالة الخاص به. لقد أحبه عملاؤه ووثقوا به. وفي السياسة، كنت بحاجة إلى أن أفعل الشيء نفسه.
على أي حال، عدت مؤخرًا لرؤية بيت مكلوسكي. لقد أدركت أنه لم يكن يؤيد القضية التي كنت أعرضها فحسب، بل إنه أصبح أيضًا مؤيدًا قويًا للحقوق الفلسطينية كما أبدى تأييده القوي لحملتنا المؤيدة لحقوق الفلسطينيين.
خلال فترة وجوده كنائب في الكونغرس، كان بيت مكلوسكي مدافعًا عن حقوق المرأة والبيئة (بصفته مؤلف قانون الأنواع المهددة بالانقراض والمؤسس المشارك ليوم الأرض)، وبالطبع الحقوق الفلسطينية.
وفي عام 1980، سافر بيت مكلوسكي إلى بيروت مع زملائه النواب نيك رحال، وماري روز أوكار، وميرف ديمالي للقاء ياسر عرفات، متحديًا سياسة «عدم التفاوض» الأمريكية مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وفيما كانت القنابل الإسرائيلية تتساقط على العاصمة بيروت عام 1982، عادوا مرة أخرى للقاء ياسر عرفات، حيث حصل بيت مكلوسكي في ذلك الاجتماع على توقيع عرفات على بيان مفاده أن منظمة التحرير الفلسطينية «تقبل جميع قرارات منظمة الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية».
وعقب زيارة دول عربية أخرى في إطار تلك الجولة في المنطقة، أدلى بيت مكلوسكي بالتصريح التالي للصحافة: «في كل قلب عربي هناك قناعة راسخة «بأن الغزو الإسرائيلي لن يحدث» من دون موافقة الولايات المتحدة الأمريكية.... نحن ندفع ثمن تلك الكراهية المتزايدة في جزء كبير من العالم».
بعد أن غادر الكونجرس، استمر بيت مكلوسكي في ممارسة الأنشطة المؤيدة لقضية العدالة. وفي أواخر فترة الثمانينيات، أسس بيت مكلوسكي مع عضو الكونجرس السابق بول فيندلي مجلس المصلحة الوطنية في محاولة لتغيير سياسة أمريكا في الشرق الأوسط لتتماشى مع المصالح الأمريكية.
كما قدم بيت مكلوسكي الدعم القانوني للناجين من سفينة يو إس إس ليبرتي، السفينة البحرية التي استهدفتها القنابل الإسرائيلية وأغرقتها خلال حرب عام 1967.
وفي عام 1993، رفع بيت مكلوسكي دعوى قضائية ضد رابطة مكافحة التشهير، وهي مجموعة حقوق مدنية يهودية مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، نيابة عن مجموعة من النشطاء المؤيدين للفلسطينيين والمناهضين للفصل العنصري الذين اتهموا رابطة مكافحة التشهير بانتهاك الحق الدستوري في ولاية كاليفورنيا في الخصوصية من خلال الحصول بشكل غير قانوني على المعلومات الشخصية للناشطين واستخدامها للتشهير بهم أو إسكاتهم.
قبل أسبوع من وفاة بيت مكلوسكي، أتيحت لي الفرصة للتحدث معه، حيث ذكّرته بالدروس التي علمني إياها وبأنه كان دائمًا بطلاً بالنسبة لنا ولكل الذين مازالوا يريدون تصديق وجود مسؤولين منتخبين يمكن أن يكونوا مناضلين مبدئيين وغير حزبيين من أجل نصرة العدالة. لقد أبكاني بيت مكلوسكي عندما قال إن أعمالي كانت له أيضًا مصدر إلهام.
قد يكون بيت مكلوسكي وافاه الأجل ورحل عن دنيانا، لكن الدروس التي علمها لي ولغيري ستبقى حية وملهمة لنا. يمكنك أن تكون مبدئيًا ومتفردا وثابتا في الحياة. في عالم السياسة، وكما هو الشأن في دنيا الأعمال، تلعب العلاقات دورا مهما في حياتنا. وإذا حاربت من أجل ما تؤمن به، فلن تشعر بالرضا عن نفسك فحسب، بل إنك ستدرك أنك كنت تعيش حياتك بشكل جيد. كان ذلك الراحل بيت مكلوسكي، ذلك الرجل المبدئي.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك