أشرت في مقالات عديدة سابقة لموضوع الأمن الإقليمي والذي يعد مفهومًا وسيطًا بين الأمن الوطني والأمن العالمي وخصص له ميثاق الأمم المتحدة فصلاً كاملاً وهو الفصل الثامن وتم التعبير عنه بتنظيمات للأمن الإقليمي من بينها جامعة الدول العربية وكذلك مجلس التعاون لدول الخليج العربية كتنظيم فرعي للنظام الإقليمي العربي، ومع أهمية جهود الحفاظ على ذلك المستوى من الأمن ومن ذلك انتظام الاجتماعات الدورية للمنظمات الإقليمية وما يصدر عنها من قرارات تعيد تأكيد أولويات القضايا الإقليمية كما أسفرت عنها القمة العربية الثالثة والثلاثون التي انعقدت بمملكة البحرين في السادس عشر من مايو 2024 حيث كانت القضية الفلسطينية هي القضية الرئيسية، فضلاً عن قضايا أخرى ذات اهتمام من جانب الدول العربية، فإن المشهد الإقليمي الراهن يجتاز حالة مخاض بالغة التعقيد تحتاج إلى استراتيجيات أكثر منها قرارات، فالقضايا التي تبدو في نظر البعض منفصلة تعد متصلة وعلى نحو وثيق بما يعنيه ذلك من ضرورة بل حتمية وضع الرؤى التي طرحت للأمن الإقليمي موضع التطبيق للحفاظ على أسس ذلك الأمن ليتكامل مع الأمن العالمي، وفي تصوري أننا أمام خمسة مشاهد للأمن الإقليمي يتعين وجود رؤى إقليمية محددة بشأنها، أولها: تهديدات الأمن البحري وهي التي لم تكن أحداث غزة منشأة لها بل كاشفة لمدى خطورتها على جوهر الأمن القومي لدول المنطقة التي تعتمد بشكل أساسي على الممرات البحرية في تجارتها الخارجية مع العالم، صحيح أنها لم تكن المرة الأولى التي تواجه فيها المنطقة تهديدات من هذا النوع ولكن هذه المرة التهديدات من جانب جماعات دون الدول مقابل دول وهذا أمر مستجد في منظومة الأمن الإقليمي وربما كانت تلك القضية مضمونا لبعض خطابات الرؤساء في القمة العربية، وفي ظل صدور تصريحات من الحوثيين بتوسيع الضربات إلى البحر المتوسط فإننا سنكون أمام مشهد جديد فهي المنطقة التي توجد فيها قوات للناتو «حارس البحر» والتي تتمثل مهمتها في تفتيش السفن التي يشتبه في أنها تحمل أشياء محظورة وتتولى تلك المهمة منذ عام 2016 والتي بدأت عملها عام 2001 تحت مسمى «المسعى النشط»، بما يعنيه ذلك من توسيع رقعة التهديدات.
ثانيها: تأثير التكنولوجيا على الأمن القومي للدول، فالمتتبع لتهديدات الأمن الإقليمي عموماً ودول الخليج العربي على نحو خاص خلال السنوات الخمس الأخيرة يدرك حقيقة مؤكدة أشرت إليها من قبل وهي تراجع مخاطر الحروب البرية، بل إن التسلح الكمي لم يعد هو عامل الردع بين الدول في ظل تسارع وتيرة التكنولوجيا الحديثة فالحديث الآن بامتياز عن الطائرات من دون طيار «الدرونز» ليس فقط لتنفيذ عمليات عسكرية بل خلال الأزمات والكوارث وكانت طائرة الاستطلاع التركية التي حلقت ساعات في الجو واستطاعت تحديد مكان سقوط مروحية الرئيس الإيراني ومرافقيه حديث وسائل الإعلام وما لدى تركيا من قدرات تكنولوجية في هذا المجال، وفي تقديري أن ثمة حاجة إلى تقييم قدرات دول المنطقة في هذا المجال وما يتطلبه سواء على المدى القريب أو البعيد.
ثالثها: القضية الفلسطينية، ربما شهدت كتابات عديدة إلا أنه حال إيجاد حل شامل لتلك القضية من خلال حل الدولتين وفقاً للقرارات الأممية سوف يكون المدخل الرئيسي لتأسيس منظومة أمن إقليمي مستقرة، حيث ثبت بما لا يدع مجالاً للشك تأثير تلك القضية في أمن المنطقة كافة فالمسألة لا تعني دول الجوار المباشر فحسب بل إن الدول الكبرى ذاتها لم تكن بمنأى عن تداعيات تلك القضية ليس أقلها المظاهرات العارمة في الجامعات الغربية التي تؤيد حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في إقامة دولته المستقلة.
رابعها: علاقة النظام الإقليمي العربي بدول الجوار وأعني بها كلا من تركيا وإيران والتي تشهد حالات من المد والجزر وفقاً للتوافقات أو الخلافات بين الجانبين، فقد أكدت العقود الماضية علاقة التأثير والتأثر بين دول الجوار والنظام الإقليمي العربي عموماً والخليجي على نحو خاص، ولكن الوقت الراهن يشهد مرحلة جديدة شهدت فيها علاقات كل من تركيا وإيران ببعض دول المنطقة تحسناً ملحوظاً وهو ما يمثل أرضية مناسبة لصياغة رؤية مستقبلية لمسار تلك العلاقات من منظور التعاون الإقليمي ويعيد ذلك إلى الأذهان مقترح الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى «رابطة دول الجوار» التي تضم الدول العربية وكل من تركيا وإيران وبعض الدول الإفريقية وهو المقترح الذي آثار الكثير من الجدل آنذاك.
خامسها: تصورات وأطر الأمن الإقليمي، فمع أهمية جامعة الدول العربية وكذلك مجلس التعاون لدول الخليج العربية كتنظيمين للأمن الإقليمي بل إنهما ركيزتان للحفاظ على توازن القوى الإقليمي فإن ذلك لا يحول دون إتاحة الفرصة لأطر أخرى في التطور وخاصة إذا كانت تستهدف الحفاظ على جانب محدد من الأمن القومي لدول المنطقة ومنها على سبيل المثال تجمع الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن والذي تأسس عام 2020 ويضم ثماني دول من بينها مصر والسعودية وخاصة أنه يمكن أن يكون الآلية الإقليمية للحفاظ على الأمن البحري في ظل وجود مقترحات وتصورات أخرى تضم أطرافاً من خارج المنطقة قد تتوافق أو تتعارض مع مصالحها.
لا شك أن قائمة قضايا الأمن الإقليمي تطول في ظل وجود أزمات إقليمية أخرى تضاف إلى الحرب في غزة ،وثمة ضرورة لوجود تصورات مشتركة لدول المنطقة بشأنها في ظل ثلاثة مشاهد دولية أولها: إعلان حلف شمال الأطلسي «الناتو» وثيقة استراتيجية لدول الجنوب في مايو 2024 ويقصد به الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والتي سوف تعرض على قمة الحلف في يوليو 2024، وثانيها: المشهد الانتخابي المرتقب في كل من بريطانيا والولايات المتحدة وكذلك مؤسسات الاتحاد الأوروبي بما يعنيه ذلك من بقاء أو تغيير بعض النخب ومن ثم تأثير ذلك في سياساتها تجاه الأمن الإقليمي في منطقتنا، وثالثها: التنافس الدولي المحتدم تجاه الشرق الأوسط والخليج العربي مجدداً وهو ما تعكسه المبادرات والاستراتيجيات التي أعادت مجدداً تأكيد الشراكة الاستراتيجية مع تلك المنطقة.
إن إطلاق مجلس التعاون رؤيته للأمن الإقليمي في مارس 2024 وكذلك مخرجات القمة العربية الأخيرة في مملكة البحرين يتكاملان معاً في صياغة ملامح رؤية دول المنطقة للأمن الإقليمي وهي التي ستكون أحد أسس المشهد الإقليمي مستقبلاً سواء في مواجهة التهديدات المشتركة أو عند صياغة أطر للأمن الإقليمي أو حتى تطوير الأطر القائمة فجميها مسارات تؤدي إلى الهدف ذاته وهو أن بقاء مفهوم الأمن الإقليمي يعد ضرورة استراتيجية بل هو صمام أمن دول المنطقة.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك