لعل القارئ لسورة سيدنا يوسف عليه السلام يلاحظ الكثير من الصور التي تدور حول صورة واحدة، والشخصية الأساسية في السورة، وهو نبي الله يوسف عليه السلام. فنبي الله عليه السلام يرتحل بطريقة أو بأخرى من مكيدة إلى أخرى حتى يصل في النهاية إلى سدة الحكم، ولكن خلال هذه الرحلة والمكائد يُظهر لنا الله سبحانه وتعالى الكثير عن النفوس البشرية السوية وغير السوية، والمكائد، والخداع، وطبائع البشر، وأنت كقارئ لهذه السورة تقرأ أيضًا كل هذه الجوانب النفسية للبشر، وعندما تأتي وتقارنها اليوم مع الأحداث العالمية والمحلية التي تجري من حولنا ترى أن هناك نوعًا من التقارب الشديد بين كل تلك الصور البشرية، فالإنسان هو هو لم يتغير طوال كل هذه السنوات. لنحاول أن نعمل بعض الإسقاطات على بعض النماذج البشرية في سورة يوسف عليه السلام وأحداث غزة.
الصورة الأولى؛ أخوة يوسف عليه السلام: يمكننا من خلال الآيات أن نقرأ أنه بعدما اتفق أخوة يوسف عليه السلام على قتله أو رميه في البئر، قال قائل منهم في الآية 9 (اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وَتَكُونُواْ من بعده قوما صَالِحِينَ)، ماذا يعني ذلك؟
الذي يعنيه بحسب التفاسير وبحسب ما نفهم أنه تم الاتفاق بين الأخوة على القضاء على سيدنا يوسف عليه السلام ومن غير أن ينبض فيهم عرق الندم، ليس ذلك فحسب وإنما يمكن أن يلاحظ من سياق الآية السابقة أنهم عزموا على التوبة من جريمتهم تلك الشائنة. بمعنى آخر فإنه في قرار أنفسهم أنهم يعرفون تمام العلم أنهم سيقومون بجريمة لا تتفق مع العقل ولا المنطق ولا عقيدة وشريعة سيدنا يعقوب عليه السلام ولا مع دين التوحيد ولا مع النفس البشرية السوية وقوانينها، وعلى الرغم من ذلك فإنهم عزموا تمام العزم على ارتكاب تلك الجريمة الشنيعة، على أمل أنهم بعد الانتهاء من تلك الجريمة سيقومون بالتوبة، وذلك يمكن قراءته في تلك الجزئية من الآية التي تقول (وَتَكُونُواْ من بعده قوما صالحين)، ولكنهم لم يسألوا أنفسهم، هل يمكن قبول توبتهم أم لا؟ وما مبرراتهم في تنفيذ تلك الجريمة؟
وهذا ما يحدث في غزة، فجيش الاحتلال يقوم يوميًّا بالإبادة الجماعية وبأبشع الصور، وهو يعرف وكل العالم الغربي والشرقي، وكذلك كل العالم بمنظماته الإنسانية وغير الإنسانية يعرف أن ما يقوم به جيش الاحتلال جريمة في حق الإنسانية والأخلاق والقيم والتاريخ وكل الأعراف، إلا أنه ما زال يقوم بتلك الجريمة من غير رادع، على اعتبار أنه سوف يُترك ومن غير أن يحاسبه أحد، أو حتى مساءلته: لماذا فعلت فعلتك؟
وربما لأن جيش الاحتلال يعرف حق العلم أن الغرب بقضه وقضيضه سيقف أمام الإعلام ليس ليعتذر أو أن ليطلب الغفران، وإنما ليبرر جريمته بأبشع الأكاذيب والنفاق البشري، إنها صورة أبشع من صورة أخوة يوسف عليه السلام عندما جاءوا عشاءً يبكون، ليبرروا جريمتهم أمام سيدنا يعقوب عليه السلام بأن الذئب أكل أخاهم، وكان العذر أقبح من الذنب.
الصورة الثانية؛ زوجة العزيز: بعدما تربى سيدنا يوسف عليه السلام وعاش في بيت عزيز مصر، وظهرت ملامح الجمال في شكله وجسمه، وحتى تفكيره وقدراته في كثير من المجالات، وجدت امرأة العزيز أنها منجذبة له، مولعة به، وأن رغباتها ليس لها حدود ولا قيود، فهي امرأة العزيز تلك المرأة التي لا يرفض لها طلب، كل شيء لديها مباح ومستجاب، فليس من المعقول أن يرفض لها هذا الغلام تلك الرغبة المتأججة في قلبها ونفسها.
إلا أنها تفاجأ أن رغبتها لم تلق القبول عند هذا الغلام، فحاولت إلا أنه فر من أمامها، وعند باب الغرفة، يفاجآن بعزيز مصر الذي يهم بدخول الغرفة، فوقفا حائرين، ماذا يمكن أن يفعلا؟
الزوجة الخائنة، المرفهة، الظالمة لنفسها وبيت الزوجية، تركض خلف سيدنا يوسف عليه السلام لإجباره على تنفيذ رغباتها، وهو الشاب اليافع الذي يرفض سقوط القيم والأخلاق، يجري نحو منفذ الخروج حتى لا يقع في الإثم والخيانة، ويمكن أن نقرأ ذلك في الآيات 25 و26، حيث قال تعالى (واستبقا الباب وقدت قميصه مِن دُبُر وألفيا سَيِّدَهَا لَدَا الباب قالت مَا جزاء من أرَادَ بأهلك سوءا إلا أَن يسجن أو عَذَابٌ ألِيم قَالَ هِيَ راودتني عَن نفسي وَشَهِدَ شَاهِد من أهلها إن كَانَ قميصه قُدَّ مِن قُبُل فصدقت وَهُوَ مِنَ الكاذبين).
ويمكن أن يلاحظ في سياق الآيات أن المظلوم لم يتكلم وإنما سكت حفاظًا على كرامة عزيز مصر، وأن الظالمة هي التي نطقت في البداية، وراحت تشتكي لزوجها ظلم سيدنا يوسف عليه السلام الذي لم يفعل شيئا، فهي التي ظلمت، وهي التي أجرمت، وهي التي بكت، وهي من قالت، وهي من تحدث أولاً، على الرغم من إننا نعرف أنها هي من دبرت وفعلت الأفاعيل، ليس ذلك فحسب وإنما أصدرت قرار العقاب كذلك، فهو إما أن يسجن أو يعذب، لأنه برئ، وهنا قتلت براءة سيدنا يوسف عليه السلام فوجد نفسه في موضع الشبهة والجريمة لذلك تحدث ودافع عن نفسه، وهذا الحدث يذكرنا بالمثل العربي الذي يقول (ضربني وبكى، وسبقني واشتكى)، وعلى الرغم من ذلك ما الذي حدث؟
عندما نتابع سير الأحداث في خلال الآيات، وبعدما يكتشف العزيز أن سيدنا يوسف عليه السلام برئ من التهمة المنسوبة إليه، وعلى الرغم من أنه برئ يلتفت إليه العزيز، يلتفت إلى من؟ ليس إلى زوجته الظالمة الخائنة وإنما يلتفت إلى البريء ليقول له كما قال تعالى في الآية 29 (يُوسُفُ أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين). فأصبح يوسف هو المتهم والظالم هنا، وبقيت هي هي لم يمسها شيء.
ما زالت دولة الاحتلال – آسف أقصد زوجة العزيز– تريد أن تنتقم أو أن تنال رغباتها التي لا تُرفض، فتجمع نساء المدينة اللاتي تحدثن عن فضيحتها، وتُدخل عليهن سيدنا يوسف عليه السلام ويحدث ما يحدث، وتصر أشد الإصرار على رغباتها وفعلها، ولكنه أصر من جانبه عليه السلام برفضه القاطع.
وهنا تأتي قمة الدراما والظلم والفساد الإداري والمالي ليدخل البريء في السجن وتترك المجرمة الظالمة لنفسها وزوجها وأهلها حرة طليقة.
لنعيد قراءة المشهد بطريقتنا،
لنتصور أن امرأة العزيز هي دولة الاحتلال، وزوجها هي الولايات المتحدة ودول الغرب، وصديقه الذي أفتى أن سيدنا يوسف عليه السلام برئ من التهمة المنسوبة إليه محكمة العدل الدولية، وسيدنا يوسف عليه السلام هي المقاومة.
فدولة الاحتلال تعربد وتقتل وتشرد وتبيد وتقوم بكل الجرائم التي لا يمكن وصفها أو حتى تسجيلها في الوثائق، إذ إن الوثائق والأقلام قد امتلأت عن الآخر، فهي الطفلة المدللة المرفهة للعزيز ودول الغرب، فكل طلباتها مستجابة من غير أي استثناء، تطلب الأسلحة والعتاد والجيوش، فتستجيب لها دول الغرب.
تقصف المدن، تبيدها عن بكرة أبيها، ثم يتكشف العالم تلك الجريمة وتأتي محكمة العدل الدولية لتقر بجريمة دولة الاحتلال أمام العالم، إلا أن الولايات المتحدة لا تعاتب الاحتلال على شيء، وإنما تضع كل اللوم على المقاومة، على سيدنا يوسف عليه السلام، فتارة تهددهم بالسلاح، وتارة باللجوء والتزام معاهدة السلام ووقف القتال، وتارة بطردهم من الأرض، وتستمر بتهديد المقاومة، هذا على الرغم من أن العالم ومحكمة العدل الدولية والجميع أقرت بما لا يدع مجالاً للشك، أنها احتلال وأنه لا حق لدولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها، لأنها أساسًا احتلال، فكيف لمحتل أن يدافع عن نفسه أمام صاحب الأرض والقضية؟
وقبل أن تسدل الستارة على المشهد الأخير، يعاقب سيدنا يوسف عليه السلام بالسجن، وكذلك أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارها بسجن قادة المقاومة، سواء بسواء مع مجرمي الحرب، لماذا؟ هل لأنها تريد استعادة حقها في الوجود؟
أخوة يوسف وزوجة العزيز وكذلك العزيز نفسه وصديقه يتكررون في أحداث غزة، ولكن بأسماء ووجوه أخرى، ووجوه جميلة وهندام مرتب، وأثاث يختلف وكل شيء مختلف إلا الأكاذيب هي هي، كلهم يريدون رمي المقاومة واتهام سيدنا يوسف عليه السلام بتهم لم يقم بها، وليس من أخلاقه أن يقوم بها، كلهم يريدون من البريء أن يقر بالجريمة، ولكنه لم يرتكب الجريمة، الجريمة ارتكبت على مرأى ومسمع من العالم ولا تحتاج إلى إثبات وشهود، كل الذي نحتاج إليه بعضًا من الصدق مع النفس.
الولايات المتحدة ودول الغرب والشرق يعرفون تمام المعرفة ما الذي يحدث في غزة، ومن هم أخوة يوسف ومن هي زوجة العزيز، ومن هو البريء، إلا أنهم لا يجرؤون على التحدث في ذلك، ولا يجرؤون أن يعلقوا الجرس ويقولون من المذنب، ربما نعرف أو لا نعرف الأسباب ولكن الحقائق تتحدث، كما غض العزيز البصر عن خيانة زوجته وجريمتها، كما عزم أخوة يوسف عليه السلام على التوبة بعد تمام الجريمة. فهل نعرف لماذا غض عزيز مصر البصر عن جريمة زوجته؟ لا نعرف. لماذا فكر أخوة يوسف في التوبة بعد أداء الجريمة؟ لا نعرف.
الجريمة تقع اليوم أمام أعين العالم، والعالم صامت، وعلى الرغم من ذلك فإن شرارة طوفان الأقصى أو بالأحرى يمكن أن نقول زلزال الأقصى يمتد، وسيمتد ليحرق العالم، ربما ليس اليوم وإنما حتمًا سيأتي اليوم الذي ستستمر النار والزلزال والطوفان لتحرق كل من اشترك في الجريمة.
وفي المشهد الختامي والأخير من القصة يتبوأ سيدنا يوسف عليه السلام سدة الحكم، وتنتصر رغبة الإنسان في البقاء.
zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك