حين أكتب أو أقرأ هذه المفردات بصوت منخفض، أو صوت مسموع أشعر بأن وراءها عطاء مخبوءا، وهذا يكشف لي ثراء اللغة العربية، وكريم بذلها، وليس ذلك بغريب على لغة وسعت كتاب الله تعالى لفظًا وغاية، وقال عنها شاعر النيل، حافظ إبراهيم:
وسعت كتاب الله لفظًا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف
آلة وتنسيق أسماء لمخترعاتي
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
إذًا، فالعربية تحمل في أحشائها اللآلئ والدرر، وعليهم أن يسألوا أهل الدراية من علماء اللغة، والباحثين في آدابها وفنونها، وسنكتفي اليوم ببضع كلمات، بل ببضع حروف التي تكشف شيئًا يسيرًا من عطاء هذه الحروف أو المفردات، ومن عطاء العربية وعظيم شأنها بين لغات العالم، سوف يظهر لنا من خلال تدبر هذه المفردات ما يغنينا عن ذكر بعضها عن استقصاء كلها.
القلم.. تقييد وتحرير، وقد ورد من هدي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) قيدوا العلم بالكتابة، فالكتابة إذًا وسيلة لحفظ العلم، فإن بذله وإنفاقه لمن يحتاج إليه تحرير له من قيوده.
إذًا، فالكتاب خزانة للعلم يرجع إليها عند الحاجة.
أما العقل.. فهو يقين لا نشك في نزاهته ووسطيته وعدله.
والثقافة.. أخذٌ وعطاء، فأنت حين تقرأ، وتمتص رحيق الكلمات، فهذا يعني أنك بقدر ما تأخذ فعليك أن تعطي، وسوف يزداد علمك بالعطاء، وسوف يتنامى صيدك من المعرفة كلما بسطت يدك بالعطاء.
والعلم.. نور وبيان، به تستقيم خطوات الإنسان، أما نقطة الحبر.. فهي توضيح وإفصاح رُغمَ أن البعض ينظر إليها بشيء من الاستخفاف، لكنها لديها قدرة على تحريك الحروف والأفعال، وكم سمعنا قول بعض السياسيين حين يريدون مزيدًا من البيان من خصومهم، فيقولون لهم: رجاءً ضعوا النقاط على الحروف! وقديمًا كانت الكلمات بغير تنقيط، فتحتمل الكلمة الواحدة أكثر من معنى، فيشتبه على الناس المقاصد والغايات، ومثال على ذلك كلمة «أشاء» في قوله تعالى: (.. قال عذابي أصيب به من أشاء) الأعراف / 156.
فالكلمة بدون تنقيط تلفظ «أساء» والمعنى صحيح لكنها استقر الوحي بتنقيط الكلًمة.
الزيتون.. وقود، وهو كذلك نور وهداية، ومن صفاء نوره، قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكبً دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) النور/ 35. وقال تعالى: (أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أمَّن يمشي سويًا على صراط مستقيم) الملك / 22.
أما الهداية، وما توحيه من عطاء.. فهي السبيل إلى بلوغ الغاية من أقصر طريق، وهي هدايتان: هداية دلالة، وهداية معونة وتمكين، فمن قبل أعانه الله تعالى ومكنه، ومن أعرض ونأى بجانبه تركه الله تعالى لنفسه الأمارة بالسوء ووسوسة شيطانه.
وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى: (قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)) المؤمنون.
ومن مفردات العربية، الهبة.. وهي العطاء من دون استحقاق، أي ليس له نصيب شرعي، واقرأ إن شئت قوله تعالى: (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرًا فهب لي من لدنك وليا) مريم / 5. وانتفاء الأسباب التي تحقق لنبي الله زكريا (عليه الصلاة والسلام)، ولقد نبهته السيدة مريم إلى طلاقة القدرة الإلهية، وأنه سبحانه قادر على إطلاق الأسباب لتكون فاعلة.
السيدة مريم (عليها السلام) تبين أن الله تعالى هو خالق الأسباب ومفعلها إذا شاء، وله أن يعطلها كذلك إذا شاء، سبحانه يملك الأسباب ولا تملكه هذه الأسباب، قال سبحانه وتعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) آل عمران / 37.
قال تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) آل عمران / 38.
المال.. فتنة فتن بها قارون، وهو المثل الصارخ في الثراء، قال تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) القصص / 76.
أما البلاء.. فهو الامتحان والاختبار، يمتحن به الله تعالى عباده الطائعين ليمتحن صدق إيمانهم، وقوة يقينهم، ويختبر العصاة منهم، وكل الناس بلا استثناء عرضة للبلاء أي للامتحان والاختبار.
هذه باقة من المفردات، ونداء من الأعماق نستوضح بها ومنها بعض عطاء الحروف والكلمات التي هي بمثابة قطوف دانية من الثمار اليانعة تتدلى من أشجار المعرفة التي أصولها ثابتة، وفروعها في السماء تؤتي أكلها، ويستريح الناس تحت ظلالها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك