زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ورقة من ملف رمضان
ما زال عطر شهر رمضان معلقا في الأجواء، وما زلت أشعر بالجوع في أول مساء كل يوم، ورغم ان رمضان يهم العموم، إلا أن كل مسلم يحس بأنه يخصه وله فيه طقوس بعينها، وأذكر أن فضائية عربية قدمت لي دعوة قبل رمضان الأخير بنحو أربعة أشهر، للمشاركة في لجنة تضع خطة برامجية لها للشهر، وبكل قلة ذوق رفضت الدعوة وقلت بوقاحة: لن أشارك في أي نوع من العبث باسم رمضان، لأنه شهر محفور في وجداني بخصوصيات اندثر معظمها ولكنها تبقى مخزونة في سنام ذاكرتي، فأتألم لأن رمضان «تعولم»، وأحزن لأن الكثير من المظاهر الرمضانية اختفت من مدن السودان الكبرى، مثل جلوس أهل كل حي في الشوارع العامة عند الإفطار، ليتشاركوا الطعام، وليتسنى لكل عابر سبيل حالت ظروفه دون تناوله الإفطار في بيته، وفي شهر رمضان من عام 2014 كان السفير الأمريكي في الخرطوم عائدا إلى قواعده بعد زيارة لمنطقة في شمال الخرطوم مع قرب غروب الشمس وفوجئ بأشخاص يقطعون عليه الطريق فقال في سره: رحنا في داهية يا ناس يا عسل داعش وصل، ولك أن تتخيل سعادته عندما اكتشف أن أهل الحي القريب من الطريق السريع يوقفون السيارات العابرة مع قرب موعد الافطار ليشارك ركابها في الإفطار الجماعي في الحي.
وفي بلدتنا في شمال السودان كان على كل صبي ان يحمل صينية الإفطار الخاصة بوالده إلى المسجد، وكانت العادة ان يتحلق الرجال حول المائدة الرمضانية من اذان المغرب حتى ما بعد صلاة التراويح، وكانت تلك الجلسة الطويلة تتطرق للقضايا الاجتماعية التي تخص أهل الحي، ولم يكن الصغار في ذلك الزمان مدللين أو مدلعين، بل بالعكس لم يكن من حقهم منافسة الكبار على أطايب الطعام، ومن ثم لم تكن بطوننا تمتلئ إلا ونحن نعيد الصواني الى بيوتنا، حيث كنا نجلس بما تبقى من محتوياتها في أماكن منزوية ونلتهم الأخضر واليابس، وكأنه آخر زادنا قبل إرجاع الآنية الفارغة إلى البيوت.
كان بنا نهم عجيب في رمضان لأن وجبتي الافطار والسحور مميزتان، وياما جاهدنا كي نبقى يقظانين كي لا تفوتنا الشعيرية والرز باللبن في السحور، ولكن هيهات في منطقة كان البقاء فيها خارج البيت حتى السابعة مساء يعتبر «صياعة وصرمحة»، وكان اليوم الرمضاني الكبير بالنسبة للصغار في عموم وسط وشمال السودان هو «الجمعة اليتيمة»، حيث جرت العادة على ان تقوم كل عائلة مات لها قريب خلال الأعوام الخمسة او الستة الماضية بإعداد فتة (ثريد) يتم فيها رش الخبز بمرق اللحم، وكانوا يسمون ذلك «عشاء الميتين»، ويعتبرونه صدقة على أرواحهم، وكنا نعرف البيوت التي عليها تقديم ذلك «العشاء» في موعد وجبة «الغداء»، ونطوف عليها، ونكتفي في غالب الاحوال بالتقاط اللحم كي يبقى في بطوننا متسع لما تقدمه عشرات البيوت، وكنا نتسم بـ«اللؤم» فنتجاهل بيوت الفقراء الذين كنا نعرف ان إمكاناتهم المادية لا تسمح لهم بالسخاء في تقديم اللحم، ونركز على بيوت البرجوازيين من الموتى، فالبرجوازيون لا يفوتون فرصة حتى لو كانت المناسبة حزينة لإثبات أنهم أعلى شأنا من الآخرين، وبالتالي كان هناك في تصنيفنا موتى خمسة نجوم نحرص على زيارة بيوت ذويهم، ونحن موقنون بأنهم سيقدمون لنا وجبة «عليها القيمة»، وموتى «نجمة واحدة» لم نكن نرى ان هناك ما يبرر دخول بيوتهم. الغريب في الأمر ان المشروم، كان عندنا في شمال السودان النوبي طعاما للفقراء، يستخدمونه كبديل للحم، والدليل على النظرة الدونية للمشروم هو انه يسمى باللغة النوبية «كجن قور» أي «علف الحمير»، وبعض أنواعه سامة تضعها في فمك فتلسعك كما عقرب وتسبب نوبات اسهال حتى للبهائم.. ودار الزمان وصار ابو الجعافر يجاري المتحضرين ويطلب الوجبات بالمشروم في المطاعم، متناسيا أنه – وفي عرف أهله – انحدر إلى مستوى الحمير.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك