طالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بإصدار مذكرات اعتقال بحق كبار المسؤولين الإسرائيليين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في حربهم على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وهو الأمر الذي لقي ترحيبًا واسعا، من قبل نشطاء حقوق الإنسان والمراقبين والمحللين وبعض الحكومات الغربية، باعتباره اعترافًا، باستقلال المحكمة، وخطوة مهمة، نحو تحقيق العدالة للمدنيين الفلسطينيين خلال هذه الحرب.
وعلى الرغم من الضغوط السياسية التي مُورست ضد المحكمة، ومدعيها العام على وجه الخصوص، بما في ذلك التهديد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي؛ فإن الرد العالمي على انتهاكات إسرائيل المتكررة، والموثقة بالقانون الدولي ضد المدنيين الفلسطينيين؛ يزيد من الإدانة داخل الأمم المتحدة، وكذلك الاتهامات بالإبادة الجماعية التي تنظرها محكمة العدل الدولية.
وفي حين أن إصدار مذكرات الاعتقال على المستوى الدولي يقتضي موافقة لجنة من قضاة الجنائية الدولية؛ فقد أشار روبي جرامر، وجاك ديتش، في مجلة فورين بوليسي، إلى أن هذه النتيجة تمثل المرة الأولى التي يواجه فيها شريك دولي كبير للولايات المتحدة اتهامات من المحكمة. وفي ظل الدعم اللامحدود لإسرائيل من واشنطن، حاول الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، تقويض شرعية المحكمة؛ لكن مع رفض الكثير من دول العالم -بما في ذلك الأوروبية- الموقف الأمريكي؛ فإن الاعتراف القانوني العالمي بالانتهاكات في غزة، قد دحض إفلات الحكومة الإسرائيلية دائما من المساءلة.
ومن خلال التحقيق الذي بدأ يوم 20 مايو 2024، أعلن خان، أن الأدلة التي جمعتها المحكمة، توصلت إلى استنتاج مفاده، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، المرتكبة ضد الفلسطينيين، لا سيما تجويع المدنيين المتعمد، وتوجيه الهجمات قصدًا، ضد أهداف مدنية بالقوة العسكرية، وأن هذه الأعمال، التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، هي جزء من هجوم واسع النطاق وممنهج ضد المدنيين وفقًا لسياسة الحكومة الإسرائيلية.
وفي بيان رافق طلب خان، إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو، وغالانت، ومع تأكيده على حق إسرائيل في الدفاع عن شعبها، إلا أنه اعترف أن هذا لا يعفيها من التزاماتها بالقانون الإنساني الدولي، خاصة أن ما تقوم به يتسبب عمدا في الموت والجوع والإصابات للمدنيين في غزة.
وفي ضوء هذه الديناميكيات، أوضحت جيسو نيا، من المجلس الأطلسي، أن المسؤولين الإسرائيليين أصبحوا هدفا لتوجيه الاتهام من قبل المدعي العام، وأن الحساسيات السياسية للقضايا المطروحة تعني أنه من المؤكد بالنسبة إلى الخبراء القانونيين أنه سيتم توجيه الاتهام لهم من قبل المحكمة، مشيرة إلى أنه على عكس القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا، أمام محكمة العدل الدولية؛ فإن ادعاءات الجنائية الدولية، ضد القادة الإسرائيليين لا تشمل تلك المتعلقة بالإبادة الجماعية، أو الفصل العنصري، على أساس أن هذه الاتهامات تتطلب أدلة واضحة تتجاوز العرض المطلوب بالجرائم الأخرى، بموجب المادتين 7 و8 من مواد نظام روما الأساسي للمحكمة.
ولأسباب عملية، أوضحت أنه من خلال توجيه تهمة تجويع المدنيين؛ فإن هذا يعني عدم حاجة المحققين إلى الوصول الفعلي إلى قطاع غزة لإثباته -وهو أمر ستحول قوات الاحتلال دونه حتما– وعوضًا عن ذلك يمكنهم صياغة حججهم القانونية في ضوء رصد وتوثيق المنظمات الدولية العاملة لهذه الانتهاكات والجرائم في القطاع.
من جانبها، رحبت منظمات حقوق الإنسان الغربية، بطلب خان، إصدار أوامر اعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين. ووصفته بلقيس جراح، من منظمة هيومن رايتس ووتش، بأنه خطوة أولى مبدئية، تفتح الباب أمام محاكمة قادة إسرائيل على الفظائع التي ارتكبت خلال الأشهر الأخيرة في غزة. وأضافت أنياس كالامار، من منظمة العفو الدولية، أنه يمثل إشارة واضحة إلى أنه لا أحد فوق القانون الدولي، ورسالة مهمة، إلى أولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب بأنهم سيحاسبون على ما اقترفوه.
على الصعيد الدولي، تم الاعتراف بمساءلة قادة إسرائيل بشكل مباشر. ورأت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أنه يوم تاريخي. وأكد رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، أنه يجب تطبيق القانون بحيادية من أجل دعم سيادة القانون الدولي. علاوة على ذلك، دافع المسؤولون الأوروبيون عن استقلال المحكمة، واختصاصها بالتحقيق في جرائم الحرب التي شهدتها غزة. وأكدت حجة لحبيب، وزيرة خارجية بلجيكا، أنه يجب محاكمتهم على الجرائم المرتكبة في القطاع، بغض النظر عن مرتكبيها، وأعلنت الخارجية الفرنسية، دعمها لاستقلال المحكمة، وكفاحها ضد الإفلات من العقاب في جميع الأحوال.
في مقابل ذلك، كانت هناك تعليقات معارضة لإعلان خان، بحق المسؤولين الإسرائيليين. ووصف جوناثان بانيكوف، من المجلس الأطلسي، هذا الأمر بأنه خطأ استراتيجي وأخلاقي، على أساس احتمالية أن يشجع نتنياهو، على استمرار الحرب، فضلًا عن دعم موقفه الداخلي؛ حيث رأى أنه حتى أولئك المنتقدين لقيادته وسلوكه سوف يلتفون حوله، ويرفضون المساءلة الدولية الأوسع.
وأشار جرامر، وديتش، إلى أن تحركات المدعي العام، أثارت موجة من الانتقادات، من أبرز مؤيدي إسرائيل في أمريكا الشمالية وأوروبا، حيث أدت إلى تفنيد مبررات وذرائع نتنياهو، وحلفائه من اليمين المتطرف في مواصلة الحرب. وتحدث رئيس الوزراء عن الكيفية التي تدير بها إسرائيل حربا عادلة، وأصر على أن عدم الضغط وعدم اتخاذ قرار لصالحه في أي منتدى دولي، سوف يمنعه من مواصلة تدمير غزة. وتماشيا مع محاولاتهم لنزع شرعية المحكمة، إزاء إصدار أي اتهام ضد إسرائيل؛ شبه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إعلان خان، بالدعاية النازية، في حين علق بيني غانتس، عضو مجلس قيادة الحرب، بأن إسرائيل تعد واحدة من أشد الدول التزامًا بالقواعد الأخلاقية، والتحقيقات القضائية بشأن سلوكياتها العسكرية.
وعلى الرغم من أن كالامار، دعت جميع الدول إلى احترام شرعية المحكمة، والامتناع عن أي محاولات لترهيبها أو الضغط عليها؛ إلا أن ردود فعل القادة السياسيين والدبلوماسيين في واشنطن، توضح الكيفية التي يريدون بها تعزيز موقف إسرائيل وعدم محاسبتها، وهو ما يوضح معاييرها المزدوجة، فيما يتعلق بالقانون الدولي، وحقوق الإنسان. ورد بلينكن، على إعلان المدعي العام، من خلال التشكيك في اختصاصات المحكمة، في حين رفض بايدن، الاعتراف بأن انتهاكات إسرائيل في غزة، ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، الأمر الذي يوضح إلى أي مدى سوف تذهب واشنطن، لحماية قوات الاحتلال من المساءلة الدولية عن انتهاكاتها للقانون الدولي.
وفي ظل هذا الوضع، أشار جرامر، وديتش، إلى كيف دعمت واشنطن، تحقيقات الجنائية الدولية، حول القادة الروس؛ بسبب حربهم في أوكرانيا، والتي ذهبت إلى حد تبادل الأدلة المؤكدة لتلك الانتهاكات مع المحكمة للمرة الأولى. ومن خلال تبنيها لإجراءات المحكمة، ضد روسيا -أحد منافسيها الجيوسياسيين الأساسيين- ومعارضة رفع أية دعاوى قضائية أو صدور إدانات ضد إسرائيل؛ تمت الإشارة إلى أن هذا التناقض يشير إلى ازدواجية معاييرها.
ومع رفض إسرائيل إعلان خان، وممارسة إدارة بايدن، الضغوط السياسية عليه، بما فيها التهديدات الصادرة من اثني عشر عضوًا جمهوريًّا في مجلس الشيوخ، والذين حذروه بضرورة وقف تحقيقاته أو فرض عقوبات على نفسه وعائلته وزملائه؛ فإن القضية الراهنة المرفوعة ضد قادة إسرائيل في الجنائية الدولية، من المقرر أن تتقدم بلا أدنى تأثير. وأوضح جرامر، وديتش، أن المدعي العام، سيقدم بعد ذلك قائمة الاتهامات إلى لجنة من قضاة المحكمة لمراجعتها والفصل فيها، وأنهم سـيقررون ما إذا كانوا سيصدرون أوامر اعتقال أم لا. وبالإضافة إلى احتمال أن مثل هذه العقوبة ستحد من سفر نتنياهو، وغالانت، إلى الدول الأعضاء في المحكمة، البالغ عددها 124 دولة، فقد أضافا أن هناك يقينًا بأن دولا، مثل جنوب إفريقيا، ستكثف حملة الضغط، ضد إسرائيل في المحافل الدولية الأخرى. ونتيجة لذلك، خلص سكوت أندرسون، من معهد بروكينجز، إلى أن أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة، سوف تدفع إسرائيل بأكملها، وليس فقط نتنياهو وجالانت، إلى أن تكون في حالة من القلق والانعزالية بصورة أكثر حدة.
وفي التحليل الغربي، تم تأكيد دعم الجنائية الدولية للقانون الدولي، باعتباره أمرا ذا أهمية خاصة. وشدد خان، في تعليقاته على أنه يجب علينا الآن أكثر من أي وقت مضى، أن نثبت بشكل جماعي أن القانون الإنساني الدولي ينطبق على جميع الأطراف على قدم المساواة؛ لأن هذا المبدأ هو الطريقة الوحيدة لإثبات أن حياة جميع البشر لها قيمة متساوية. واعتبر عادل حق، من جامعة روتجرز، أن هذا رد فعل بالغ الأهمية، حيال الشكوك حول ما إذا كان القانون الجنائي الدولي، سوف يرقى إلى مستوى التطلعات ويوفر العدالة المتساوية لكل الأطراف.
وأوضحت ألبانيز، أن حرب غزة كانت بمثابة اختبار حقيقي لمصداقية المحكمة، وأضافت جراح، أن طلب خان، إصدار أوامر بالاعتقال أمام ضغوط المشرعين الأمريكيين، يؤكد الدور الحاسم للجنائية الدولية، وأن هذا التحرك يتحدى مسألة الإفلات من العقاب، التي حمت إسرائيل لعقود من الزمن، وحثت الموقعين على نظام روما الأساسي على الاستعداد لحماية استقلال المحكمة، ضد ما أسمته الضغوط العدائية.
وبالإضافة إلى اتهامات سموتريتش، التي لا أساس لها من الصحة بمعاداة السامية ضد المحكمة الجنائية الدولية، ودورها في انتقاد المسؤولين الإسرائيليين بشكل مباشر لدورهم في تدمير غزة، واستشهاد الآلاف من المدنيين، فإن تصريحه بأن إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو، وغالانت، هو بمثابة مذكرات اعتقال لنا جميعا؛ يعد اعترافا، بمدى تشديد نطاق المساءلة القانونية الدولية لإسرائيل على الرغم من محاولات حلفائها الغربيين -وأبرزهم الولايات المتحدة- تشويه سمعة المحكمة وتهديد مسؤوليها. وفي حين رأى جرامر، وديتش، أن قرار خان، يمكن أن يلحق الضرر بشكل دائم بعلاقة واشنطن بالمحكمة، فمن المهم الإشارة إلى وقوف العديد من الدول الأوروبية إلى جانب شرعية الأخيرة، ودعم حقها للتحقيق في السلوكيات المتطرفة لـ نتنياهو، وغالانت.
على العموم، على الرغم من التحركات والخطوات الإيجابية من المحكمة الجنائية الدولية، فقد أوضح دانييل ماشوفر، من مجموعة المحامين من أجل حقوق الإنسان الفلسطينية -والذي أشار إلى أن قائمة المتهمين الإسرائيليين المحتملين بارتكاب جرائم حرب تمتد إلى ما هو أبعد من نتنياهو وغالانت- أن هذه القائمة استغرق إعدادها فترة طويلة للغاية، وأن المجتمع الدولي فشل بلا شك في منع تفاقم الحرب، وهذه المأساة الإنسانية الجماعية. وأشارت ألبانيز أيضًا، إلى أن العقوبات المتوقعة من المحكمة ضد القادة الإسرائيليين بسبب الجرائم التي ارتكبت عن عمد، تأتي متأخرة للغاية، بحيث لم تتمكن من منع وقوع حرب إبادة جماعية، ضد المدنيين الفلسطينيين، من قبل نتنياهو وحكومته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك