مع استمرار حرب إسرائيل على غزة حدث تحول كبير بالرأي العام الدولي نحو التعاطف مع محنة الفلسطينيين تحت القمع، والاحتلال، والحصار، والتجويع، حتى في الدول الغربية التي كانت تاريخيا أبرز المؤيدين لها. ففي المملكة المتحدة، أوضحت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة يوجوف، تأييد 69% من البريطانيين لوقف إطلاق النار (مقارنة بمعارضة 13% فقط ذلك)، وأن التعاطف مع فلسطين يعادل ضعف التعاطف مع إسرائيل (29% مقابل 16%)، فيما يعتقد 56%، أنه يتحتم على حكومتهم حظر مبيعات الأسلحة لإسرائيل. وفي الولايات المتحدة، سُجل تعاطف الأمريكيين الأصغر سنا تجاه الفلسطينيين بشكل أكبر بكثير من الإسرائيليين (60% إلى 46%)، في حين ارتفع التعاطف بين عامة السكان بشكل ملحوظ منذ أكتوبر 2023.
ودعما لهذا التقييم، أشارت آنا جوردون، في مجلة تايم، إلى كيف أدت الحرب إلى تغير الآراء حول إسرائيل من إيجابي، إلى سلبي، في دول مثل الصين والبرازيل مع دول أخرى لديها وجهات نظر سلبية كاليابان وكوريا الجنوبية انخفاضات حادة أيضًا. ومع تأكيد شركة مورنينج كونسلت، تراجع الآراء العامة حول إسرائيل في 42 دولة من أصل 43 دولة قامت بتقييمها؛ فإن متوسط انخفاض قدره 18.5% يؤكد كيف تبدلت المواقف الدولية بين شعوب العالم، بالنظر إلى الكيفية التي ساعدت بها حكومة نتنياهو، على تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة وهجومها على رفح.
ومع استمرار الولايات المتحدة، والعديد من الدول الغربية في دعمها الدبلوماسي، والسياسي، والعسكري، والاقتصادي لإسرائيل طوال الحرب، وعدم تغيير إدارة بايدن من سياساتها؛ اتخذت بقية المجتمع الدولي إجراءات لمحاسبة قوات الاحتلال جراء جرائم الحرب التي ارتكبتها في غزة. وسلطت التحقيقات التي أجرتها محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، الضوء على دور القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية في هذه الجرائم. فيما دعمت الجمعية العامة للأمم المتحدة، عبر العديد من القرارات مساءلتها على المستوى العالمي. وفي أحدث إجراء لها، أوضح جوليان بورغر، ولورينزو توندو، في صحيفة الجارديان، أنها وافقت بأغلبية ساحقة، في 10 مايو 2024 على طلب فلسطين الحصول على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة.
ومع تصويت 143 دولة لصالح القرار مقابل رفض 9 دول، وامتناع 25 عن التصويت (بما في ذلك المملكة المتحدة)؛ رأى بورغر، وتوندو، أن هذا لا يعد فقط تعبيرا عن الرأي العام العالمي لصالح الدولة الفلسطينية، لكنه أيضا بمثابة تأكيد للعزلة العالمية التي تعاني منها إسرائيل جراء جرائمها وانتهاكاتها ضد الفلسطينيين، وقد دل على ذلك حقيقة دعم فرنسا في هذا الشأن. وصرح السفير نيكولا دي ريفيير، الممثل الدائم لها لدى الأمم المتحدة، بأن الوقت قد حان لكي تتخذ الأمم المتحدة إجراءات بهدف حل القضية الفلسطينية.
ومع ذلك، ففي حين رأت ألكسندرا شارب، في مجلة فورين بوليسي، أن هذه الخطوة هي انتصار رمزي، للقضية الفلسطينية، فقد أشارت إلى كيف ستواصل الولايات المتحدة، منع حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة من خلال التصويت بالفيتو لدى مجلس الأمن.
ولتمديد صلاحيات فلسطين، كمراقب في الأمم المتحدة، والذي تتمتع به منذ عام 2012، أوضح بورغر، وتوندو، أن الإجراء الذي تم تمريره لا يدعو مجلس الأمن إلى منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين فحسب، بل يشمل أيضًا تعزيز مهمتها الحالية بمجموعة من الحقوق والامتيازات الجديدة، بالإضافة إلى وضعها الحالي كمراقب. وأشارت شارب إلى أنه يمكن لممثليها الآن التحدث في جميع القضايا، واقتراح بنود جدول الأعمال والمشاركة في النقاش وفي لجان الأمم المتحدة، وحضور المؤتمرات. وعليه، رأى ريتشارد جوان، من مجموعة الأزمات الدولية، أن هذا التصويت يمنح الفلسطينيين حقوق ومزايا عضو في الأمم المتحدة، وإن كان بدون السمات الأساسية لعضو حقيقي، وهي التصويت والقدرة على المشاركة في مجلس الأمن.
ونظرًا إلى أن الموافقة على انضمامها كعضو كامل بالجمعية العامة يجب أن تكون بموافقة الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن؛ فإن موقف الولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الأول للسياسات الإسرائيلية المناهضة للفلسطينيين، قد أدى توصل المراقبين إلى نتيجة مفادها أنه لن يتم منح العضوية الكاملة لفلسطين في أي وقت قريب. وبالفعل، أعلنت بعثة الولايات المتحدة، لدى الأمم المتحدة، أنها ستستخدم حق النقض ضد قبول العضوية الفلسطينية أمام مجلس الأمن، تمامًا كما فعلت في المسألة ذاتها في أبريل2011، عندما كانت فلسطين، الدولة الوحيدة التي طلبت ذلك. وصرح ناثان إيفانز، المتحدث باسم البعثة بأن فلسطين لا تستوفي حاليًا معايير العضوية الكاملة، بموجب ميثاق الأمم المتحدة، كما أكد روبرت وود، نائب المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن أن واشنطن ترى أن أفضل طريقة لضمان العضوية الكاملة للفلسطينيين تأتي من خلال المفاوضات مع إسرائيل.
وفي هذا الصدد، يجب الإشارة إلى تأثير القيود التي فرضتها واشنطن على الأمم المتحدة؛ لعرقلة المسار الراهن لفلسطين نحو زيادة دورها في تلك المنظمة. وأوضح بورغر، وتوندو، أن نص تصويتها للسماح بحصول فلسطين على العضوية الكاملة تم تصميمه بعناية، حيث تضمن تخفيف لهجته بعض الشيء؛ ليتناسب مع القانون الأمريكي الصادر عام 1990، والذي يحظر على الحكومة الفيدرالية تمويل أي وكالة تابعة للأمم المتحدة، تمنح العضوية الكاملة لدولة فلسطينية، وتحديدا منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى وجه الخصوص، أشارت شارب إلى أن النص النهائي للقرار استبعد الصياغة التي كان من شأنها أن تضع فلسطين على قدم المساواة مع الدول الأعضاء.
من جانبها، حاولت إسرائيل تقويض مظاهر التضامن الدولي مع الفلسطينيين من خلال توجيه اتهامات لا أساس لها ومحاولات الهجوم على المنظمة الأممية التي لا تقبل انتهاكاتها لحقوق الإنسان، والقانون الدولي. ولم يقتصر الأمر على قيام مندوبها لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، -خلال كلمته في إحدى جلسات الجمعية العامة- بتمزيق نسخة من ميثاق الأمم المتحدة؛ احتجاجا على التصويت الذي يمنح حقوقا إضافية لفلسطين؛ لكنه تعهد بأن هذا التصويت لن يغير أي شيء على الأرض، وبالتالي، فإن استمرار إسرائيل في حربها على رفح، يُظهر أنها ليست معنية بالامتثال للقانون الدولي.
علاوة على ذلك، قام أعضاء الكونجرس الأمريكي، في إطار دعمهم القوي لقوات الاحتلال، بتهديد الأمم المتحدة، ووكالاتها من الناحية التمويلية؛ بسبب اعترافها بالدولة الفلسطينية. وقبل التصويت، قدم 25 عضوًا جمهوريًا في مجلس الشيوخ مشروع قرار لتشديد القيود الحالية، وقطع التمويل عن أي كيان يمنح حقوقًا وامتيازات للفلسطينيين. وأوضح المرشح الرئاسي الأسبق ميت رومني، أنه لا ينبغي لـ«واشنطن»، أن تمنح المصداقية لمنظمة تشجع الأعمال الإرهابية وتمولها بشكل نشط، مضيفا أن القوانين التشريعية، تفرض قطع التمويلات عن الأمم المتحدة، إذا منحت حقوقا وامتيازات إضافية للسلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من أن صحيفة ميدل إيست مونيتور، رأت أنه من غير المرجح أن يتم تمرير مثل هذه التشريعات عبر الكونجرس؛ إلا أن هذه الإجراءات والتصريحات تشير إلى أي مدى قد يذهب إليه المشرعون الأمريكيون للتصدي للانتقادات الموجهة إلى إسرائيل ومحاولات مساءلتها.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن إنكار أن عرقلة الولايات المتحدة، وإسرائيل، الاعتراف بالدولة الفلسطينية، سيكون له ردود فعل واضحة؛ إلا أن العديد من الدول الأوروبية أعلنت رغبتها في الاعتراف رسميًا بدولة فلسطينية مستقلة. وتحدث منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن نية الحكومتين الإسبانية، والإيرلندية، القيام بذلك قبل نهاية مايو 2024. ومن المقرر أن تتبعهما سلوفينيا، ومالطا. وفي أبريل الماضي، أعلن وزير الخارجية الإسباني خوسيه ألباريس، أمام مجلس الأمن، أن الفلسطينيين، يجب أن يحصلوا على العضوية والحق في قيام دولتهم الخاصة. ونتيجة لذلك، رأى مارك جونيينت، من موقع ميدل إيست مونيتور، أن هذه الدفعة القوية من الدول الأربع يمكن أن تؤدي الى مزيد من الاعتراف بالدولة الفلسطينية داخل أوروبا الغربية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تحولات أكثر أهمية في الدول الأكثر نفوذا، مثل فرنسا، وإيطاليا، بشأن علاقاتهما مع إسرائيل من جانب، والفلسطينيين من جانب آخر.
على العموم، رغم استمرار تعنت إسرائيل، تجاه القانون الدولي، وسعي المشرعين الأمريكيين إلى قمع الأصوات المنتقدة لذلك، فقد فشلا في عرقلة التحقيقات التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، كما أخفقا أيضًا في تقويض الاعتراف بالدولة الفلسطينية بالأمم المتحدة. وبالنظر إلى الكيفية التي حذر بها يان إيجلاند، من المجلس النرويجي للاجئين، من تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة جراء الحرب على رفح؛ فإنه يجب على هؤلاء المشرعين -الذين يدّعون أنهم محكمون في مجال حقوق الإنسان العالمية- أن يركزوا في إنهاء هذه الأزمة الإنسانية، بدلاً من منع فلسطين من أخذ مكانتها، ووضعها الملائم على الساحة الدولية.
ومع رفضهم القيام بذلك، وسعيهم لمواجهة المواقف العالمية المتزايدة الداعمة لفلسطين، فإن هذا الأمر سيمثل نقطة سوداء، ستثقل كاهل العلاقات الخارجية للولايات المتحدة لعقود عديدة قادمة، جراء معاييرها المزدوجة، فيما يتعلق بحقوق الإنسان، والقانون الدولي، وحق تقرير المصير الذي من المستحيل إنكاره بأي حال من الأحوال.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك