تبدو وحدة الصف العربي، ضرورة، الآن أكثر من أي وقت مضى، أمام تحديات دولية وإقليمية غير مسبوقة، طالت العديد من الملفات السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، في الوقت الذي بات فيه أيضًا النظام الدولي عاجزًا عن حسم هذه الملفات. يدعم هذه الوحدة امتلاك المنطقة العربية العديد من المقومات الاستراتيجية التي تجعل القوى العالمية تتهافت عليها، ليس فقط لأنها قلب العالم القديم، ومن يسيطر عليها يسيطر على هذا العالم، لكن لتأثيرها القوي في أمن الطاقة العالمي، والسيولة الدولية، وحركة الاقتصاد.
وتاريخيًا، حققت وحدة الصف العربي إنجازات مشهودة، فقد كانت عاملاً أساسيًا في إنهاء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ودعم الصمود العربي بعد نكسة 1967، وتحقيق الانتصار في 1973، وتحقيق التوافق في قمة بيروت 1982، بشأن مسار القضية الفلسطينية وحلها على أساس قيام دولة مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وانسحاب إسرائيل من الأراضي السورية واللبنانية المحتلة، وجعل القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية.
علاوة على ذلك، ساعد هذا التوافق على تحقيق أول مراحل التعاون الاقتصادي، ممثلة في منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وإطلاق الميثاق العربي لحقوق الإنسان في 2004، فيما مكن من قيام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، لتعزيز الهوية العربية كأحد أهم مقومات الأمن القومي العربي، وإنجاز عدد من الاستراتيجيات المهمة، التي تدعم العمل العربي المشترك، كالاستراتيجية العربية للأمن المائي (2020–2030)، والاستراتيجية العربية للشباب والسلام والأمن (2023– 2028)، والاستراتيجية العربية للصحة والبيئة (2017–2030).
وفي المقابل، أفسح غياب التوافق ووحدة الصف العربي، المجال للتدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وانتعاش مشروعات الهيمنة من قوى إقليمية ودولية على حساب هذه الدول، وإحداث الوقيعة فيما بينها، وخروج عدة ملفات مهمة من سيطرة العمل العربي المشترك، لتصبح في أيدي قوى خارجية، تبحث عن مصالحها فقط، بغض النظر عن توافق أو تعارض هذه المصالح مع مصالح هذه الدول.
ونتيجة لذلك، باتت عدة أزمات في المنطقة العربية أزمات مزمنة، مضى عليها أكثر من عِقد من الزمان، وافتقدت هذه الدول أولى أساسيات التنمية المستدامة وهو الأمن، وخرجت من السياق العالمي للتنمية المستدامة.. فهل نستطيع التحدث عن تحقيق أهداف هذه التنمية المراد لها أن تكون مع عام 2030، في سوريا أو اليمن أو ليبيا أو العراق، إننا فقط نستطيع التحدث عن عشرية سوداء تعرضت لها هذه الدول، وأفقدتها أكثر من عِقد كامل من عمر التنمية، كما لا نستطيع التحدث أيضًا عن أهداف التنمية في السودان، الذي مزقته الحرب بين قادة كانوا معًا شركاء في الحكم، أو الصومال الذي مازال يعاني سطوة الإرهاب.
وفي 14 مايو، خلال الجلسة الافتتاحية لاجتماع وزراء الخارجية العرب التحضيري للقمة العربية الـ 33 في المنامة، ومع استمرار العدوان الإسرائيلي للشهر السابع على التوالي، وعلى وقع توغل الدبابات الإسرائيلية في مدينة رفح جنوب قطاع غزة رغم التحذيرات الدولية والعربية، جددت السعودية إدانتها للانتهاكات الإسرائيلية، وقال وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، إن استمرار آلة الحرب الإسرائيلية في عدوانها وخرقها لكل القوانين والأعراف الدولية دون مبالاة، في ظل غياب آليات المحاسبة الدولية؛ فاقم من حجم الكارثة الإنسانية، مشددا على أن تلك الانتهاكات أضعفت مصداقية قواعد النظام الدولي ومؤسساته، وأظهرت العجز التام للمؤسسات الدولية في صون السلم والأمن الدوليين.
ومن المعروف أنه للمرة الأولى منذ 7 أكتوبر 2023، يصدر مجلس الأمن قراره يوم الإثنين 25 مارس 2024، بوقف إطلاق النار، حيث امتنعت الولايات المتحدة، عن التصويت بعد ثماني محاولات، وبرغم الترحيب الدولي بهذا القرار، إلا أن إسرائيل لم تلتزم به، وعجز المجلس عن تحقيق هذا الالتزام.
ومن أصل 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، وافقت 153 دولة، على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12ديسمبر2023، بوقف إطلاق النار في غزة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، وكان ذلك في الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة من أجل الأعمال الإسرائيلية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان قد تقدم بمشروع القرار 21 دولة عربية تحت عنوان حماية المدنيين والتمسك بالالتزامات القانونية والإنسانية، وأيضًا لم تلتزم إسرائيل بهذا القرار، ولم تستطع الجمعية العامة للأمم المتحدة فرض هذا الالتزام.
وفي 10 مايو الماضي، وبأغلبية 143 عضوا شاملاً 12 عاصمة أوروبية لأول مرة أصدرت الجمعية العامة، قرارًا بأحقية دولة فلسطين للعضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهو القرار الذي ينتظر موافقة مجلس الأمن، ومن المعلوم أن الولايات المتحدة، ستستخدم الفيتو، من أجل تقويضه كما استخدمته لحرمان فلسطين من هذه الصفة في اجتماع المجلس في 18 أبريل، ولدى صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، قام مندوب إسرائيل بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة أمام الجميع.
أما الفرع الثالث الرئيسي للأمم المتحدة، وهو محكمة العدل الدولية، ففي اليوم 112 للعدوان الإسرائيلي على غزة أصدرت قرارها بقبول نظر الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، معلنة فرض تدابير مؤقتة على إسرائيل لمنع الإبادة الجماعية، فهل التزمت قوات الاحتلال بهذه التدابير أم ضربت بها عرض الحائط، وقد شملت هذه التدابير الوقف الفوري لإطلاق النار، فيما كان عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي حين صدور هذه التدابير من المحكمة قد قارب الـ 100 ألف.
لكن بينما كانت مؤسسات العمل الرسمي في النظام الدولي تقف عاجزة عن وقف العدوان الإسرائيلي، كانت مؤسسات العمل الشعبي تنتفض في أوروبا، والولايات المتحدة، داعية إلى وقف العدوان، برغم السيف المسلط عليها بدعوى معاداة السامية، حيث انتشر الحراك الشعبي في الأوساط الطلابية، وهو ما أثر كثيرًا في خطاب الرئيس الأمريكي بايدن، بشأن مساندة إسرائيل، ورأينا ذلك في امتناع واشنطن عن التصويت لدى صدور قرار مجلس الأمن في مارس، كما رأيناه في تعليق بعض صادرات الأسلحة الأمريكية.
في ظل هذه الأوضاع، تبدو وحدة الصف العربي ضرورة، بينما اتجهت قمة المنامة، إلى تعزيز التشاور والتنسيق بين الدول العربية للحفاظ على الأمن والاستقرار، وتعزيز المصالح العربية في ظل المتغيرات المتصاعدة، وفي الاجتماعات التحضيرية التي سبقت القمة، طغت القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على غزة على أعمالها، ومن الطبيعي أن تواكب القمة ما يستشعر به كل بيت في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه من غضب وحزن حيال هذه المأساة.
فيما كانت وحدة الصف العربي بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة، قد تجلت في 11 نوفمبر الماضي في القمة العربية الإسلامية، غير العادية بالرياض، والتي أنشأت لجنة وزارية، مكلفة بمتابعة التطورات في غزة برئاسة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، قامت بزيارات مختلفة لعواصم القرار في العالم في أوروبا، والولايات المتحدة، وآسيا، لحشد التأييد لوقف إطلاق النار، وتأكيد ضرورة تدفق المساعدات الإنسانية، كما عملت من أجل دفع الدول باتخاذ خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وبلورة أفق سياسي يفضي إلى تجسيد الدولة الفلسطينية.
وفيما تغيرت بوصلة الرأي العام الدولي تجاه وقف إطلاق النار، وتدفق المساعدات الإنسانية، والتوجه إلى حل سياسي، وفيما تعتمد القمة في إطار وحدة الصف خطة الاستجابة الطارئة التي أعدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة العربية، والتي تتناول التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للعدوان الإسرائيلي على دولة فلسطين، وتشمل برامج تتعلق بالاستجابة الطارئة والإغاثة الشاملة والإنعاش المبكر؛ فقد بات العالم مستعدًا لمؤتمر دولي للسلام بشأن القضية الفلسطينية، وهي الدعوة التي سبق أن صدرت عن الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، على هامش الاجتماع الوزاري لدوله مع مجموعة دول آسيا الوسطى، في أبريل الماضي، والذي طالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، والدعوة إلى مؤتمر دولي لتسوية القضية الفلسطينية، وهو مؤتمر تشترك فيه جميع الأطراف المعنية بالوصول إلى حل لهذه القضية، وإقامة الدولة الفلسطينية وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، فيما أكد وزير الخارجية البحرينية في اجتماع وزراء الخارجية العرب تبني القمة مجموعة من المبادرات العربية، من بينها عقد مؤتمر دولي للسلام لحل القضية الفلسطينية برعاية الأمم المتحدة على أرض البحرين.
على العموم، مع الأغلبية الكبيرة التي حازتها مشروعات القرارات التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتضمنت عواصم أوروبية، ووجود 137 دولة تعترف بدولة فلسطين، نجد إشارات لإمكان نجاح عقد مؤتمر دولي لتسوية القضية الفلسطينية، وخاصة مع الإعداد الجيد له، وإمكان خروجه بخارطة طريق، تعيد الاعتبار للشرعية الدولية، فيما يعزز هذا النجاح وحدة الصف العربي، لتكون قمة المنامة علامة فارقة بين القمم العربية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك