في المقال قبل الماضي تحدثت عن علاقة حلف الناتو بدول الجنوب والمقصود بها شمال إفريقيا والشرق الأوسط والخليج العربي وكانت خلاصته أن الحلف أطلق مبادرتين لتعزيز شراكته مع دولها الأولى: هي الحوار المتوسطي عام 1994 وشمل 7 دول من حوض البحر الأبيض المتوسط، والثانية: مبادرة إسطنبول عام 2004 وانضمت إليها أربع دول خليجية هي البحرين والإمارات والكويت وقطر، وأشرت إلى أن الحلف لم يكتف بذلك بل يستعد لإصدار وثيقة تعكس رؤيته المستقبلية لعلاقته بدول الجنوب، وهي التي صدرت بالفعل في 7 مايو 2024 بعنوان «فريق الخبراء المستقل يدعم عملية التفكير الشامل والعميق لحلف شمال الأطلسي في الجوار الجنوبي»، وفي تقديري أن الوثيقة تكتسب أهميتها لأسباب ثلاثة أولها: إنها المرة الأولى التي يطلق فيها الحلف استراتيجية لمنطقة فرعية، حيث اعتاد الحلف على إصدار مفهوم استراتيجي شامل كمراجعة أمنية لسياسته كل عشر سنوات لكل مناطق العالم بما فيها الجنوب، بما يعنيه ذلك من أن إصدار الحلف لتلك الوثيقة يعكس ربما قصور سياسات الحلف تجاه تلك المنطقة، وثانيها: يتزامن إطلاق تلك الوثيقة مع مرور ثلاثين عاماً على إطلاق مبادرة الحوار المتوسطي، وعشرين عاماً على إطلاق مبادرة إسطنبول بما يعنيه ذلك من أن الأهداف التي تضمنتها الوثيقة الجديدة ستكون المبادئ العامة الحاكمة لمسار هاتين المبادرتين مستقبلاً تكاملاً لا تعارضاً مع نصوصهما، وثالثها: التحولات التي تشهدها البيئة الأمنية الإقليمية في الوقت الراهن المتزامنة والمترابطة نتيجة الحرب في غزة تؤكد ضرورة إيضاح القوى الدولية سياساتها تجاه تلك التحولات والتي أوجدت تهديدات غير مسبوقة ليس أقلها أمن الملاحة البحرية، بمعنى آخر إن تلك التهديدات أثارت تساؤلات عديدة لدى دول الجنوب شركاء الحلف مجملها: أين حلف الناتو من تلك التهديدات؟ وربما تكون قمة الحلف القادمة في واشنطن، يوليو 2024 فرصة لإيضاح سياسات الحلف تجاه الجنوب تأسيساً على توصيات تلك الوثيقة وخاصة أن المجموعة الاستشارية التي كانت معنية بإصدار تلك الوثيقة بدأت عملها في أكتوبر 2023 تزامناً مع بدء الحرب في غزة.
وثيقة الحلف الجديدة تجاه الجنوب أعدها فريق من الخبراء المستقلين من بعض أعضاء الحلف وهي: الدنمارك، فرنسا، ألمانيا، اليونان، إيطاليا، بولندا، البرتغال، إسبانيا، تركيا، بريطانيا، الولايات المتحدة، من ناحية ثانية لوحظ أنهم من المدنيين والعسكريين على حد سواء وهذه سمة للتفكير الاستراتيجي للحلف في كل مؤسساته وإصداراته أن يضم العنصرين المدني والعسكري معاً.
تحتوي الوثيقة على مبادئ الحلف والنهج الإقليمي والشراكات، ثم الانتقال إلى الحديث مباشرة عن المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية للحلف وهي كما وردت في الوثيقة: شمال إفريقيا، الشرق الأوسط، الساحل وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وقد حددت الوثيقة مجالات التعاون وهي الأمن الإنساني، المرأة والسلام والأمن، الحكم الرشيد، مكافحة الإرهاب، الأمن البحري، التغير المناخي، الدبلوماسية العامة والاتصالات الاستراتيجية، الرد على التلاعب بالمعلومات واختتمت بالحديث عن التعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية مع الإشارة إلى علاقة حلف الناتو بالاتحاد الأوروبي.
ومع أهمية مضامين الوثيقة والتي عكست آليات عديدة للتعاون بين الحلف ودول الجنوب فإنه مما لفت الانتباه فيها ست رؤى محددة أولها: حول القضية الفلسطينية حيث تضمنت الوثيقة توصية بأن حلف الناتو لابد أن يدعم حل الدولتين ويمكن خلال تلك الرؤية أن تتم دعوة السلطة الفلسطينية إلى مبادرة الحوار المتوسطي بصفة مراقب، وواقع الأمر أن تلك هي رؤية الحلف منذ سنوات ولكن تضمينها رسمياً في تلك الوثيقة يعني أن الحلف يريد الانخراط في قضايا الجنوب التي يرى أنها تمثل تهديداً لمصالح دوله الأعضاء، وثانيها: أن يسعى الحلف إلى إنشاء مركزين جديدين في شمال إفريقيا في مجالي الرد على التلاعب بالمعلومات والتدخلات الخارجية، والمناخ والأمن، ويأتي ذلك المقترح ضمن خطوات مماثلة اتخذها الحلف سابقاً من خلال افتتاح الحلف المركز الإقليمي لحلف الناتو ومبادرة إسطنبول بالكويت 2017 وفي العام ذاته قرر قادة الحلف إنشاء مركز بحري لمكافحة الهجرة غير الشرعية وتم افتتاحه رسمياً في مدينة نابولي بإيطاليا عام 2019، ومن ثم فإن استمرار الحلف في النهج ذاته يعني المضي قدماً في تأسيس مراكز عديدة نوعية معنية بمواجهة التهديدات الأمنية الجديدة التي ربما لم يكن بعضها مستهدفاً ضمن مبادرتيه المشار إليهما تجاه الجنوب، وثالثها: تعيين مبعوث خاص للجنوب، وواقع الأمر برغم أنها خطوة مهمة فإنها تأتي بشكل متأخر نسبياً حيث إن للاتحاد الأوروبي مبعوثا خاصا للقرن الإفريقي على سبيل المثال، وكذلك ممثل الاتحاد لدى دول الخليج العربي، وكذلك يوجد مبعوث خاص لكل من الصين وروسيا لمنطقة الشرق الأوسط منذ سنوات، ولكنها تبقى خطوة مهمة لإمكانية أن يكون ذلك المبعوث الخاص حلقة الاتصال المباشر بين الحلف والشركاء دون انتظار بروتوكولات انعقاد جولات الشراكات الاستراتيجية، ورابعها: تأسيس الحلف بعثات تدريبية واستشارية لدى الشركاء، وذلك انطلاقاً من تجربة الحلف في العراق في هذا الشأن، فللحلف بعثة تدريبية تستهدف تدريب قوات الأمن العراقية، ولكن يلاحظ في تلك التوصية أنها يجب أن تكون وفقاً لطلب الشركاء حسب احتياجاتهم الأمنية وليست برغبة من جانب الحلف، وتعد تلك الاستراتيجية جزءا من نهج الحلف الذي تحول إلى مدرسة عسكرية رفيعة المستوى لتقديم مفهوم «الأمن الناعم» من خلال تدريب أكثر من 1000 ضابط ومدني من دول الحلف والدول الشريكة من خلال تمرين إدارة الأزمات وقد كان كاتب هذا المقال أحد الموجهين الأكاديميين لذلك التمرين على مدى عشر سنوات بكلية دفاع الحلف بروما، وخامسها: تكثيف الحوار السياسي والدبلوماسي مع دول الجنوب لإيضاح سياسات الحلف ورفع مستوى التعاون مع المنظمات الإقليمية ومنها الاتحاد الإفريقي لدرجة التمثيل السياسي بدلاً من الاتصال العسكري الراهن، ولاشك أن ذلك يعكس قناعة الحلف بأهمية دور المنظمات الإقليمية في التكامل مع الجهود الدولية لمواجهة المستجدات الأمنية، فضلاً عن تعزيز تبادل وجهات النظر مع تلك المنظمات ،وسادسها: تحديد قضايا الأمن البحري ومكافحة الإرهاب وتغير المناخ كأولويات أمنية للحلف ضمن شراكته مع الجنوب يعكس إدراك الحلف للأمن التقليدي وغير التقليدي، ففي النهاية تتشكل بيئة غير آمنة يجب على الحلف التحرك لدرء المخاطر فيها.
اللافت في الوثيقة أنها تتضمن توصيفاً لكل منطقة فرعية وتهديداتها ثم تحديد توصيات على المديين القريب والبعيد بما يتيح للحلف اتخاذ ما يراه مناسباً وفقاً للأولويات الأمنية ومخاطرها، إلا أن التساؤل الذي يطرح ذاته هل تعد تلك التهديدات أولويات للجنوب في الوقت ذاته؟
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك