في بيان إنساني عام، وفي عهد وثيق، ووعد أكيد، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات / 13.
لقد نزل هذا البيان الجامع المانع قبل أن يكون للإنسانية حقوق يجب الوفاء بها، وعهود يجب ألا تنقض، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم وعهوده، وعهود صحابته الكرام، وخاصة خلفاءه الراشدين منهم والذين ألزموا أنفسهم بما ألزمهم به الإسلام، ووقفوا عند حدوده التي رسمها الإسلام لهم في التعامل مع الأمم الأخرى، يقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة / 8.
الإسلام العظيم بهذا البند من القانون الإلهي ألزم نفسه بالحفاظ على حقوق الأقوام الذين استظلوا بظلال الإسلام، وعاشوا في كنفه ممن كفوا أيديهم عن الإساءة إلى المسلمين ، ولقد حاول بعض المسلمين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإساءة إلى يهودي باتهامه زورًا بالسرقة، ولفقوا له الأدلة الباطلة، وكاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يطبق عليه حد السرقة إلا أن الله تعالى أنزل قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة ويتعبد به، قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) النساء / 105.
لقد سار الصحابة الكرام (رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم) على هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فحافظوا على العهود والمواثيق، وأعطوا الناس حقوقهم، والأمثلة على ذلك كثيرة في عهد الخلافة الراشدة، وها هو الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يرفع إليه أحد المصريين الأقباط مظلمته على ابن عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، فينصفه الخليفة عمر، ويقول لعامله على مصر: «يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
ومثال آخر على عناية الإسلام وخلفائه الراشدين بأهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن هم في حكمهم، فحفظ لهم الإسلام حقوق المواطنة، فيرى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يهوديًا يتكفف الناس، فهال عمر حاله، فسأله عن ذلك، فقال له: أنا يهودي وليس لي عائل أو راتب لأدفع الجزية، وأنفق على طعامي وشرابي، فقال له: ما أنصفناك أخذنا منك وأنت قوي وتركناك وأنت ضعيف، فأسقط عنه الجزية، وجعل له راتبًا، ولمن يقوم بشأنه، ثم قال لخازن بيت المال: انظر هذا وأترابه، فاجعل لهم ما يسد حاجاتهم!.
وللمرأة نصيب موفور من عدل عمر ورحمته، فقد شكت إليه امرأة من أقباط مصر عامله على مصر عمرو بن العاص (رضي الله عنه) الذي أخذ بيتها عنوة وضمه إلى المسجد عندما ضاق المسجد بالمصلين، ولقد عرض عليها الوالي مالًا مقابل هذا البيت، فأبت عليه ذلك إلا أنها رفضت عروضه كلها، فغضب منه أمير المؤمنين، وأمره أن يعيد إليها بيتها، وأن يسترضيها، وأن فعله هذا يسيئ إلى الإسلام، ويشوه صورته عند الناس.
وفي عهد الخليفة الراشد الرابع الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) سقط درعه منه والتقطه يهودي، وادعى ملكيته، فتحاكم هو واليهودي إلى القاضي، فحكم القاضي بالدرع إلى اليهودي لعدم كفاية الأدلة على ملكية الإمام (رضي الله عنه) ورضي الإمام بالحكم، وتعجب اليهودي من هذا الحكم، واعترف اليهودي بأن الدرع هو ملك لأمير المؤمنين، فأعطاه الإمام إياه فأعلن اليهودي إسلامه.
وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز (رضي الله عنه) رفعت امرأة من أقباط مصر تطلب منه أن يأمر عامله على مصر أن يرفع جدار بيتها حماية لدجاجها التي تأكلها الكلاب، فأرسل إلى عامله على مصر بأن يرفع جدار بيتها حماية لدجاجاتها، فسارع الوالي إلى تنفيذ ما أمره به أمير المؤمنين.
وكما التزم الخلفاء والولاة بعهود الإسلام ومواثيقه تجاه أهل الذمة ومنهم في حكمهم، فإن علماء الإسلام ساروا على نهجهم، وها هو الإمام الأعظم أبو حنيفة يرعى حقوق جاره اليهودي الذي كان يشرب الخمر، ويردد أبياتًا من الشعر، كان يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
وخلوني لمعترك المنايا
وقد شرعت أسنتها لنحري
كأني لم أكن فيهم وسيطًا
ولا لي نسب في آل عمر
وكان هذا الجار يؤذي الإمام، ويقض مضجعه، ولما افتقد صوته سأل عنه قالوا: ألقت العسس القبض عليه، فذهب الإمام أبو حنيفة إلى الأمير عيس بن موسى، وطلب منه أن يفك أسره، ففعل بل زاد على ذلك بأن أطلق كل من قبض عليه في تلك الليلة كرامة للإمام، فلما خرج الإمام بجاره قال له: هل أضعناك يا فتى؟ قال: بل حفظتني حفظك الله.
وهكذا حقق الإسلام مبدأ المواطنة من قبل أن يكون لها عنوان، ورعى بها حقوق الآخرين بالقسطاس المستقيم، وعاش أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن هم في حكمهم في دولة الخلافة الراشدة في أمن وأمان التي اتسعت لهم ولمن آثر البقاء في دولة الخلافة الراشدة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك