قالت لي مدربة، في رحلتي الأخيرة إلى دولة من الدول الشقيقة، لدي قصة صديقة ستعجبك ويمكن أن تنشرها من خلال مقالك الأسبوعي، من أجل التوعية فقط.
قلت لها: تفضلي، وكلي آذان صاغية.
قالت المدربة: تقول صديقتي.. فجأة استيقظت وأنا في غرفة مقيدة اليدين، لا أعرف أين أنا؟ وكيف جئت إلى هنا؟ ولا أحد في الغرفة سواي.
صرخت، ولكن لا من مجيب، صرخت بصوت أعلى، وبعد لحظات دخلت عليّ سيدتان يبدو أنهما خادمة وممرضة، استغربت، سألتهن: من أنتما؟ ولماذا أنا هنا؟ ولكن لم يجيبا.
قلت: أريد أن أدخل الحمام.
حملاني من يديّ المقيدتين وأدخلاني الحمام لقضاء الحاجة، وفي الطريق رأيت رجلا جالسا في المطبخ الذي يطل على الطريق، صرخت فيه: لماذا أنا هنا؟ من أنت؟
ولكن لا مجيب.
وقبل أن يدخلاني الغرفة مرة أخرى، قلت: أريد أن آكل، أريد طعاما.
أدخلتني الممرضة الغرفة، وذهبت الخادمة لإحضار وجبة غذائية ساخنة، استغربت، وتساءلت بيني وبين نفسي «كيف يأتياني بوجبة ساخنة إن كنتُ مختطفة؟» ولكن يبدو أني لست مختطفة، ولكن ما هذا الوضع الذي أنا فيه؟
قامت الخادمة بإطعامي، وشربت الماء، وبعد ذلك قامت بغسل فمي، ثم غادرت الغرفة، فجلست وحيدة.
ربما مرت ساعة أو ساعات لا أعرف، أجد نفسي في بعض الوقت أني نمت، وفي أوقات أخرى أشعر ببعض الآلام في جسدي كله، آلام رهيبة تجعلني أصرخ من شدة الألم وأنادي، وأصرخ وأنادي، ولا مجيب. ولكن في أوقات محددة تدخل الخادمة والممرضة ليقوما بإدخالي الحمام وإطعامي وإعادتي إلى الغرفة، ودائمًا أجد ذلك الرجل هنا جالسًا ينظر إليّ بنظرات لم أتمكن حتى ذلك الوقت من تفسيرها.
بدأت الآلام تتزايد يومًا بعد يوم، لا أستطيع الصبر عليها، وفي بعض الأيام أقاوم الألم بالنوم والتجاهل، ولكن في أيام كثيرة يغلبني الألم فأضرب رأسي في الأرض والجدار وكل ما هو موجود في الغرفة. وكل الذي تقوم به الممرضة أن تضمد جراحي، ومن غير كلام.
لا أعرف ماذا يحدث، ولماذا يحدث ذلك. ولكن كل الذي أعرفه أني أعاني من آلام شديدة في كل أعضاء جسمي، كل خلية من جسمي تعاني وتصرخ من الألم، ولا أعرف لماذا؟
تصوروا، امرأة مربوطة اليدين وفي غرفة مغلقة النوافذ، ولا تعرف أي شيء، فلا تعرف لماذا هي هناك؟ وكيف جاءت؟ ومن الذي أحضرها؟ هل هي مخطوفة؟ ولماذا خطفت؟ لا أعرف أين والدي؟ أين عائلتي؟ كل الذي أعرفه أني منهكة جدًا.
ثم سقطت على الأرض، مغشية عليّ، لم أستيقظ فترة طويلة، وعندما استيقظت وجدت الرجل يجلس بالقرب من سريري وهو يبتسم، ولكن مازلت مقيدة.
قال: كيف حالك اليوم؟
صرخت، وحاولت الهروب ولكني لم أتمكن من الوقوف أو حتى الجلوس، حاولت إلا أنني لم أتمكن، ثم هدأت لأنه لا جدوى من المقاومة.
بعد لحظات، قلت: من أنت؟ ولماذا أنا هنا؟
قال: أنت زوجتي، ألا تتذكرين؟
صدمة، بل قنبلة وقعت على رأسي، (كيف؟)، قلت: كل الذي أتذكره أني ذات يوم خرجت من بيت والدي ولم أكن متزوجة، فكيف ومتى تزوجت؟
قال الرجل الذي يدعي أنه زوجي وبكل هدوء وهو يبتسم: اهدئي حتى أحكي لك الحكاية، كيف ومتى تزوجنا.
تقول صديقتي: في البداية لم أكترث لكلماته، وإنما حاولت أن أجاريه لعله في النهاية يطلق سراحي وأذهب إلى والدي، ولكنه وبهدوئه العجيب قال:
أنا مؤذن مسجد، ذات يوم وجدتك جالسة عند باب المسجد تتسولين، ملابسك رثة، وحالتك لا تسر الناظر، فنظرت إليك ولم أعيرك أي التفاتة، فسرت بعيدًا عنك، كنت تتسولين الطعام، بأي طريقة.
وجدتك مرات كثيرة عند باب المسجد، حاولت مساعدتك ولكني تساءلت كيف يمكن مساعدتها؟ لا أستطيع إدخالها المسجد؟ إلى أين آخذها؟
وبعد عدة أيام، أتيت المسجد باكرًا، وفي يدي بعض من الطعام، وأدخلتك غرفة من غرف المسجد وطلبت منك المكوث هنا من غير أي صراخ أو عبث، وأعطيتك الأكل فأكلت، ثم غادرتُ ودخلتُ المسجد.
جئت إليك ببعض الملابس، فاستحممت، وتغير شكلك، وقلت لك: ما حكايتك؟ إذ يبدو أنك من عائلة وبنت ناس، كما يقال، فبدأت تحكين حكايتك، وهي:
كنت شابة، في مقتبل العمر، تخرجت في الجامعة، ولكن تعرفت على بعض البنات والشباب الذين لا تقيدهم القيم ولا القيود، حياتهم سهر وحفلات ورحلات وكل ما يتوقع وما لا يتوقع.
فبدأت في تعاطي المخدرات، في البداية كانت مجرد تسالي ومزحة وتقليد، ولكنها للأسف تحولت –كالعادة– إلى إدمان، بل الإغراق في الإدمان.
عرف والدك، حاول أن يعالجك، فأدخلك المصحة، لسنوات، ولكنك رفضت العلاج، فقد كنت راغبة في الاستمرار، وليس لديك رغبة في العلاج، حاول والدك بكل الطرق إلا أنه فشل.
فهددك عدة مرات، ولكن لا جدوى، وفي النهاية هددك بالطرد، إلا أنك لم تنتظري حتى يقوم بتنفيذ تهديده، فهربت ولجأت إلى أصدقائك، ومن هناك بدأ عالمك في الانهيار والتدحرج نحو الهاوية، فصار البحث عن المخدرات هو شغلك الشاغل.
قلت لي يا زوجتي أنه لا تعرفين كم من السنوات عشت في تلك البيئة، ولكنك وجدت نفسك في النهاية تتسولين من أجل الطعام، ومن أجل المخدرات أيضًا، فلا هدف ولا حياة. ولكنك مررت ذات يوم عند باب المسجد، فسمعت الآذان، عندها شعرت أن كلمات الآذان قد دخلت روحك، وتسربت إلى خلايا من خلايا جسدك فبكيت، وكذلك بكيت أنت، حينئذ تذكرت والدك وبيتك وحياتك السابقة، فتساءلت بينك وبين نفسك «كيف أعود؟ وهل سيقبلني والدي مرة أخرى بعد كل هذا؟».
فوجدت نفسك جالسة عند باب المسجد لا تعرفين لماذا، غير أنك جائعة تريدن بعض الطعام، فأغدق عليك بعض المحسنين بعض المال، فاشتريت الطعام وأكلت، وتكرر جلوسك عند باب المسجد، حتى أتيت أنا. أدخلتك غرفة من غرف المسجد، وسألتك: من أنت؟ ومن هو والدك؟ ألا ترغبين في العودة؟
قلت من أنت وما اسمك واسم والدك، أما عندما وصلت إلى موضوع العودة بكيت بحرقة لم أشعر بها من قبل، فنظرت إليّ وتساءلت «وهل للعودة من سبيل؟».
تركتك هناك، في الغرفة الملحقة بالمسجد عدة أيام، كنتُ أغدو وآتي إليك بين الفترة والأخرى حتى أحضر لك الطعام، وبعد عدة أيام جئت بك إلى هذه الشقة البسيطة، وأحضرت لك ممرضة وخادمة حتى تقومان عليك، ثم طلبت منك الزواج فوافقت.
أخذتك بالسيارة إلى بيت والدك، وأجلستك في السيارة، ودخلت على والدك في المجلس، وطلبتك منه، ولكنه قال: لا أعرف تلك البنت، إنها عاصية وهاربة، وأنا لا أعرف أين هي.
قلت: إن وافقت على طلبي، فإني الآن أذهب إلى المأذون والشهود وآتيك بها، تطلب منك المغفرة وتقبل رأسك، ونكتب الكتاب.
ذهل والدك مني، فابتسم، وقال: أرى أنك جاد في طلبك.
قلت: لقد أرسلني الله سبحانه وتعالى من أجل بنتك، وأرسلها لي.
وفي الأخير وافق على طلبي، فتزوجنا. ثم عدنا إلى هذه الشقة، وبعد ذلك بدأت تظهر عليك آثار الانسحاب من الإدمان، لذلك ربطت يديك وقيدتك، كل هذه الفترة حتى يذهب عنك آثار الإدمان، وكنتُ أتألم كما تتألمين، وكانت الممرضة ترفض تدخلي في العلاج، لذلك كنت أجلس بعيدًا ودموعي تنهار من غير أن تلاحظي، ونحن على هذا الوضع منذ شهور.
تقول صديقة المدربة: شعرت أنه صادق، فنظرات عيونه كانت تحكي الحكاية بكل هدوء وصدق، ثم أخرج من جيبة ورقة عقد القران، ليطمئن قلبي.
فقلت له: هلا فتحت قيودي الآن، فأنا أصدقك.
قال: يا ليت الأمر بيدي، ولكنه بين يدي الممرضة.
إلا أن الممرضة رفضت الطلب، وبقيت مقيدة، إلا أنه هو الآن يأتي ليطعمني ويمازحني ويضحك معي، ومع الوقت كنت أشعر برغبتي في الحديث معه، وجلساته، وضحكاته، فكان لا يفارقني إلا عندما يذهب إلى العمل والمسجد.
حتى وصلت إلى المرحلة التي سمحت لي الممرضة بفك قيدي، وشعرت عندها أني امرأة حرة أستطيع الذهاب والقدوم والجلوس في الصالة والذهاب إلى المطبخ، وأني ربة هذا البيت الصغير المتواضع الذي حفظ سري وهويتي وانحداري عن العالم.
ما أروع هذا العالم وما أروع هذا الرجل!
تقول المدربة عن صديقتها: إنها اليوم أم لثمانية شباب وشابات، تهتم بهم وتخاف عليهم، وتحاول أن تمنعهم من السقوط في براثن المخدرات، ليس ذلك فحسب وإنما انضمت إلى محاضن مكافحة المخدرات حتى ترشد المدمنين إلى الطرق الآمنة لمكافحة المخدرات.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك