لقد شارف العام الدراسي على الانتهاء، حامًلا معه كل الشكر والتقدير والامتنان للجهود التربوية المبذولة من القيادات التربوية والتعليمية، التي اتسمت بالإخلاص والعطاء اللامحدود، والتي عملت من أجل تطوير وتحسين الممارسات التربوية، والارتقاء بمستوى أداء الطلبة، والعمل على الوصول إلى نقطة مهمة في النظام التعليمي، وهي فترة الانتهاء من المناهج الدراسية وتقديم الامتحانات وإعلان النتائج النهائية.
ومن منطلق أهمية التعليم في صنع الحضارة الإنسانية في إرجاء المعمورة، فقد حظي قطاع التعليم في مملكة البحرين باهتمامات رفيعة المستوى من جلالة الملك، وبتوجيهات حكيمة من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس الوزراء حفظه الله ورعاه في اجتماع اللجنة التنسيقية رقم (461) لدعم وتطوير المنظومة التعليمية في المملكة، والعمل على اعتماد أسس وخطط انطلاقة النهضة التعليمية مؤشراتها ونتائجها نوعًا وكمًا، وذلك من أجل بناء مواطن قادر على المساهمة في اقتصاد المعرفة والمساهمة في بناء القدرات الوطنية.
وقد تترجم ذلك في تدشين وزارة التربية والتعليم خطة وزارة التربية والتعليم الاستراتيجية 2023-2026 في السادس من مارس 2023 تحت رعاية الدكتور محمد بن مبارك جمعة وزير التربية والتعليم، الذي أكد أن الخطة الاستراتيجية للوزارة تأتي منسجمة بشكل تام مع أهداف وأولويات برنامج الحكومة «من التعافي إلى النمو المستدام»، متضمنة سلسلة من المبادرات الهادفة إلى النهوض بمستوى خدمات الوزارة بشكل عام، وبخاصة فيما يتعلق بتحسين أداء المؤسسات التعليمية، ومراجعة وتطوير المناهج وطرائق التدريس في جميع المراحل الدراسية، بالشكل الذي يضمن تلبيتها للاحتياجات والمهارات المطلوبة، مع الارتقاء بكفاءة القوى العاملة.
إن النمو والتنمية المستدامة في أي مجتمع مرهونة بفاعلية أنظمة التعليم، ومن يدرس تجربة بعض الدول مثل سنغافورة وماليزيا وفنلندا يدرك أن الأمم الفقيرة حققت نجاحًا باهرًا وتقدمت تقدمًا اقتصاديًا ملموسًا لأنها امتلكت نماذج تعليمية متفوقة، ووضعت مجموعة من الأساليب والإجراءات والاستراتيجيات التي يتم اتباعها بهدف الانتقال بالطلبة إلى وضع أفضل، وتحقيق التوازن بين المعارف وتطبيقها؛ لتلبية احتياجات الطلبة المعرفية والاجتماعية، والتي من شأنها تحقيق سبل الحياة الكريمة، وتدريب المعلمين للعمل على تمكين الطلبة من التعامل مع مختلف القضايا الاقتصادية والسياسية والبيئية والاجتماعية، مثل: الديمقراطية، واحترام الرأي الآخر، وبهذه الإجراءات يمكننا إطلاق مفهوم التنمية المستدامة في التعليم.
لذا فإن مملكة البحرين من الدول التي أولت جانب التعليم في خططها التنموية، ووضعت في ميزانيتها السنوية اهتمامًا أساسيًا واعتبرته في مقدمة اهتمامات وخطط التنمية الاقتصادية للمملكة.
وقد انعكس ذلك على ما شهدته مملكة البحرين من نهضة تنموية شاملة خلال السنوات الماضية، حيث تغطى خريطة المشروعات التنموية محافظات، ومناطق المملكة، وعلى كل المستويات، بفضل توافر الإرادة السياسية، والرؤية الشاملة لما ينبغي أن تكون عليه المملكة، وبما يتناسب مع تاريخها وحضارتها، وإمكاناتها المادية والبشرية، وهو ما ترجم على أرض الواقع عبر مسارات من العمل الوطني والإرادة المجتمعية، والتخطيط الاستراتيجي السليم، وهو ما جعل المملكة نموذجا يحتذى في إدارة التنمية، والمشاريع الرائدة.
ولا يكاد يمر عام إلا وتشهد فيه المملكة مشروعات تنموية مختلفة في كل القطاعات، وفى كل المحافظات، سواء المشروعات الصحية أو التعليمية أو البنية الأساسية، والطرق والجسور، التي تربط كل أنحاء المملكة وتهيئ البيئة لانطلاق عملية التنمية، كذلك في قطاع الكهرباء، الذي شهد توجهًا جديدًا في إنتاج الطاقة الكهربائية بواسطة الألواح الشمسية، والتوسع في إنتاج الطاقة المتجددة.
وكما نعرف فإن أهداف التنمية المستدامة تتكون من (17 هدفًا) و(169 غاية) و(229 مؤشرًا) ويشمل هدف التعليم كعنصر أساسي من عناصر الهدف الرابع من أجل التنمية المستدامة، والمكون من (7 غايات) و(3 وسائل) للتنفيذ، والذي يتمحور حول جودة 2030. ويعدُ عامًلا رئيسًا لتتمكن من تحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة، وذا تأثير قوي على تحقيق العديد من الغايات ومنها: القضاء على الفقر، والصحة والمساواة بين الجنسين، وتغير المناخ، والسلام والعدل والمؤسسات القوية، والعمل اللائق.
إذ إن التعليم هو حجر الزاوية في جميع عمليات التنمية وأساس نجاحها، وباعتبار أن منظمة اليونسكو مسؤولة عن تنسيق إطار العمل الخاص بالتعليم من أجل التنمية المستدامة 2030، فقد أشارت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو: «يجب أن تتغير نظرتنا إلى الدور الذي يؤديه التعليم في التنمية العالمية تغيرًا جذريًا، فهو عامل يُحفز على تحقيق رفاه الأفراد، وبناء مستقبل كوكبنا الأرض. وتمكن مسؤولية التعليم اليوم أكثر من أيّ وقت مضى في مواكبة تحديات القرن الحادي والعشرين وتطلعاته وفي تعزيز القيم والمهارات الكفيلة بتحقيق النمو المستدام والشامل للجميع والتعايش السلمي». إنّ الهدف من العملية التعليمية هو التأثير في الطلبة على المدى البعيد، وتحقيق عنصر الاستمرارية، وهذا يتطلب الجودة في التعليم، وفهم الهدف من التنمية المستدامة في التعليم ومقوماتها».
لذا فإنه حتى تتحقق أهداف التنمية المستدامة، يجب مراعاة المقومات الأساسية والإطار الثقافي والحضاري، والتعليم وفقًا لنموذج علمي معتمد وهذا ما انتهجته مملكة البحرين في الاستراتيجية التعليمية للمملكة، وكذلك العمل على تبني فلسفة التعليم والتدريب المستمر، والأخذ بضرورة مراعاة تطور حجم المؤسسة التعليمية وإمكانياتها، واستخدام أدوات متطورة ودقيقة لتحليل المعلومات، والوصول إلى تمكين الطلبة من الاعتماد على أنفسهم وتحمل المسؤولية، واكتسابهم المهارات التي تدعم مواقفهم لتولي أدوار قيادية على الصعيدين المحلي والوطني، مما يُمَكّنهم من المشاركة في صنع القرار بشأن المجالات التي تؤثر في جودة حياتهم ومجتمعاتهم، وتحقيق مطلب التعلم مدى الحياة واستدامته، والتشجيع على تحسين جودة التعليم ونوعيته ومتطلباته.
يجسد النظام التعليمي أهم مراحل بناء الإنسان، وبناء المجتمعات، وبناء الأوطان، حيث يؤثر التعليم في النمو من خلال تزويده الأفراد بشكل عام والطلبة بشكل خاص بالمهارات اللازمة للمساهمة في الإنتاج مستقبًلا بكل أشكاله. كما يسهم بتزويد الأفراد بالمعلومات المهمة والمتخصصة، والتي توجههم وتساعدهم على القيام بدورهم في إنتاجات العمل وجودتها، وهو السبيل الذي يؤدي إلى تحقيق التنمية الشاملة اقتصاديًا واجتماعيًا وغيرها، ويمثل الهوية الوطنية لأي بلد، لما له من ارتباط وثيق بعدة جوانب في المجتمع والصحة والتجارة والصناعة.
ذلك أن النظام التعليمي يعمل ضمن مسارات متصلة مع أنظمة المجتمع ووفق استمرارية وتطوير لهذه الأنظمة ضمن منظومة شاملة ومتكاملة، ورغمًا عن ذلك فإنه يواجه تحديات أبرزها: صعوبة تفهم العلاقة بين التعليم ومتطلبات التنمية المستدامة، وكيف يمكننا ربط التعليم بمختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية، وهنا لابد من التخطيط المدروس والشامل لمستقبل التعليم ومواجهة التحديات التربوية على صعيد التنوع في الأساليب والاستراتيجيات وتأهيل المعلمين في كل متطلبات العملية التعليمية.
وفي ضوء الحكمة الصينية التي تقول: «إذا أردت الاستثمار لعام واحد فازرع الحنطة وإن أردت الاستثمار لعشر سنوات فازرع شجرة، ولكن إن أردت الاستثمار مدى الحياة فازرع في الناس»؛ لذا فإنه في عالمنا هذا الذي يزداد تعقيدًا وترابطًا، يعد التعليم مفتاح النجاح الشخصي والمهني ومدى الحياة، لما له من ارتباط وثيق بالتنمية المستدامة وهي استثمار في البشر وللبشر، وينبغي أن يكون التعليم قادراً على إحداث تغيير، وأن يتيح لنا اتخاذ قرارات مستنيرة وإجراءات فردية وجماعية من أجل إحداث تغيير في مجتمعاتنا والعناية بكوكبنا.
لذا نرى أنه قد تم إجراء العديد من البحوث والدراسات حول اقتصاديات التعليم، والتي كان لها دور نحو التحول الجذري في الفكر التنموي التعليمي، الذي ركز اهتمامه على تنمية قدرات الإنسان واعتبار التعليم هو محور التنمية الحقيقية وأداة تنمية قدرات البشر .ويتضح لنا كيف أن التعليم هو الذي دفع بالإنسان إلى صلب العملية التنموية وجعله المكون الأهم في معادلة التنمية ورفع شعار «لا تنمية بلا بشر»، أي أنه لا يمكن الاستغناء عن العنصر البشري في الإنتاج، وفي النمو الاقتصادي، وإن الاستثمار في رأس المال البشرى هو أحد أكثر الوسائل فعالية للحد من الفقر وتشجيع التنمية المستدامة.
{ مختصة في فلسفة الدراسات البيئية
وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك