منذ فبراير 2024 دخلت الحرب الروسية – الأوكرانية عامها الثالث بلا منتصر ولا مهزوم، وربما يكون معروفاً أسباب تلك الحرب وتطوراتها إلا أن إطالة أمدها يستدعي الوقوف أمام أسبابها وتأثيرها في الأمن الأوروبي والأمن العالمي بل والشرق أوسطيا.
وواقع الأمر أن تلك الحرب تعد نموذجاً واضحاً لتغير المفاهيم التقليدية للحروب والأفكار التي كانت مثار اهتمام نظريات العلاقات الدولية عبر عقود خلت، فوفقاً للمفاهيم التقليدية وبمنطق توازن القوى العسكري فإنه لا سبيل للمقارنة بين الجيش الأوكراني والجيش الروسي الذي يصنف كثاني أكبر جيوش العالم بعدد جنود يبلغ مليونا و300 ألف جندي، ناهيك عن التفوق النووي الروسي على الناتو، فلدى روسيا 6255 رأسا نوويا مقابل 6065 رأسا نوويا لدى الدول النووية الثلاث في الناتو مجتمعة وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فضلاً عن صدور تقارير تؤكد قدرة روسيا على الاستمرار في الحرب بنفس الوتيرة الحالية مدة ثلاث سنوات أخرى مع زيادة ميزانيتها الدفاعية بأكثر من 60%، إلا أنه في الوقت ذاته تتفوق جيوش سبع دول فقط من بين دول الناتو الـ32 من بينها بالطبع الجيش الأمريكي على الجيش الروسي، ومع أهمية ذلك فإن تلك الحرب أكدت أنه من التبسيط تطبيق نظرية توازن القوى على مضامينها ومساراتها، فقد لعب الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً فيها من خلال توظيف الطائرات من دون طيار «الدرونز» على نحو غير مسبوق، فضلاً عن استمرار إمداد بعض الدول الغربية لأوكرانيا بالأسلحة، وبالرغم من أن الحديث المتبادل بين روسيا وحلف الناتو هو عدم نية أحدها مهاجمة الآخر عسكرياً بشكل مباشر فإن الحقائق على الأرض تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك على أن المواجهة بين الطرفين محتدمة وكان لها تأثير في خطط واستراتيجيات الطرفين الدفاعية، ففي تصريح لها في 4 مايو 2024 قالت ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية: «إن التدريبات العسكرية التي يجريها حلف الناتو على مدى أربعة أشهر قرب حدود روسيا دليل على أن الحلف يستعد لصراع محتمل معها»، الجدير بالذكر أن الناتو بدأ منذ يناير 2024 تدريبات تضم 90 ألف جندي تستهدف كيفية «دعم القوات الأمريكية للحلفاء الأوروبيين في الدول المتاخمة لروسيا وعلى الجانب الشرقي للحلف حال اندلاع صراع»، في المقابل قال روب باور رئيس اللجنة العسكرية في حلف الناتو: «يتعين علينا الاستعداد للنزاع مع روسيا، وأن نكون مستعدين لكل شيء» وأضاف: «نحن بحاجة إلى نظام يسمح لنا بتدريب المزيد من الأشخاص»، ويعني ما سبق أنه بالرغم من نفي الطرفين نية المواجهة العسكرية المباشرة – وهو برأيي أمر لايزال مستبعداً – فإن المؤشرات تعكس العمل على قدم وساق من الطرفين بشكل احترازي تحسباً لأي تطورات طارئة وهو ما يعزز من فكرة أثرتها في بعض كتاباتي عن تلك الحرب وهي أن هناك إصرارا من الطرفين على تحقيق مفهوم «المعادلة الصفرية» في نظريات العلاقات الدولية أي أن المكاسب الكاملة لطرف ما تكون هي خسائر للطرف الآخر وهذه حالة نادرة الحدوث في ظل ما أشرت إليه في موضع سابق بشأن تأثير التكنولوجيا الحديثة في الحروب والتي أتاحت حتى للجماعات دون الدول الدخول وبقوة على خط التفاعلات في تأجيج الصراعات ومنها حالة الحوثيين وتهديد الملاحة البحرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب الاستراتيجي، بل إنه في ظل مصالح الناتو التوسعية ومعضلة روسيا الأمنية فإن الحرب في سبيلها نحو الاستمرار على الأقل على المدى المنظور.
ولعل التساؤل الذي أثير ولا يزال يطرح ذاته هل سوف تؤثر تلك الحرب في واقع معادلة الأمن الأوروبي بل والعالمي؟ وواقع الأمر أن الأثر الأول والمباشر من وجهة نظري هو أن تلك الحرب أعادت تأكيد حقيقة مهمة إنه بالرغم من استمرار اعتماد دول الاتحاد الأوروبي الذي لم تكن نشأته بغرض الدفاع على الاعتماد على حلف الناتو فإن أوروبا تشعر بحالة من الانكشاف الأمني غير المسبوق ، فأمنها يظل مرتبطاً بما يقرره الحلف بشأن زيادة أو خفض المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ناهيك عن تهديدات دونالد ترامب بشأن الانسحاب من حلف الناتو – وهي برأيي ليست سوى مفردات انتخابية محضة – ولكن الأمر المهم بالنسبة إلى أوروبا التي نجحت نسبياً في بدء الاستقلال التدريجي في مجال الطاقة أن تقوم بالأمر ذاته في المجال الدفاعي في ظل تباين كبير بين دولها وخاصة الصغرى بشأن الاختيار ما بين إطار أمني أوروبي جديد وما بين الناتو حيث تتداخل عضوية 23 دولة أوروبية ما بين المنظمتين، وعلى الصعيد الدولي فإن تلك الحرب ربما ترسم ملامح مشهد دولي يتضمن تقارباً روسياً – صينياً كانت آخر مؤشراته زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف للصين في أبريل 2024 ولقائه نظيره الصيني وانج ينج وهي الزيارة التي لم تبد الولايات المتحدة ارتياحاً بشأنها كما جاء على لسان نائب وزير الخارجية الأمريكي المسؤول عن إعادة رسم السياسات الأمريكية تجاه آسيا.، صحيح أن ذلك التقارب لن يرقى إلى تحالف ولكنه بين دول تناوئ السياسة الأمريكية وتضمها تجمعات أخرى من بينها تجمع البريكس بالإضافة إلى دول أخرى في ذلك التجمع، وفي تقديري أن نتائج تلك الحرب سوف تترك آثاراً مهمة على الأمن الأوروبي والأمن العالمي.
وفي ظل التداخل الشديد بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي، فإن منطقة الشرق الأوسط البعيدة جغرافياً عن ذلك الصراع لم تنج من تداعياته لسبب مؤداه ارتباط أطرافها على نحو وثيق بشراكات سواء مع روسيا أو مع الولايات المتحدة أو حلف الناتو كمنظمة، وقد انعكس ذلك الصراع على المنطقة فللمرة الأولى تشير استراتيجية الأمن البحري الروسي المحدثة عام 2022 أنه من بين أهدافها إيجاد نقاط ارتكاز لوجيستي لروسيا في البحر الأحمر وهي المنطقة ذاتها التي شهدت تأسيس تحالف «حارس الازدهار» بقيادة الولايات المتحدة لحماية السفن التجارية من هجمات الحوثيين في ديسمبر 2023، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن حرص دول المنطقة على تنويع شراكاتها سواء من خلال السعي للانضمام إلى تجمع البريكس أو قبول رعاية الصين لاتفاق استئناف العلاقات السعودية – الإيرانية، وإبرام شراكات استراتيجية بين مصر وكل من الصين وروسيا جميعها مؤشرات يتعين أن تؤخذ بعين الاعتبار.
ولا يعني ما سبق أنه صراع «حافة الهاوية» حيث أكدت كل الأزمات التي شهدها العالم على أن الاتصال قائم بين الأطراف المختلفة على مدار الساعة، ولكن ما ينبغي التفكير فيه هو تأثير التكنولوجيا على الحروب وتأثير الأزمات على مسارات الشراكات وأهمية بناء الأمن الذاتي سواء على صعيد الدولة أو التنظيمات الإقليمية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك