زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
هل أنا ناجح؟ لكم القرار (4)
هذه هي الحلقة الرابعة حول موضوع النجاح، وأواصل سرد المعطيات التي تجعلني أعتقد بأنني ناجح، كما اعتبرني مؤلف سوداني كان بصدد إصدار كتاب عن «قصة نجاح» شخصيات سودانية مختارة من بينها أبو الجعافر (وقد صدر الكتاب بالفعل في عام 2015)
وأواصل اليوم الزعم بأنني أعتبر نفسي ناجحا ليس لأنني أنجزت أمرا محسوسا، بل لأنني قانع بما حققته على المستوى الشخصي على الأقل، فمثلا نجحت في الالتحاق بالجامعة الوحيدة في البلاد، وتسنى لي فيها تعزيز علاقتي بمعشوقتي (اللغة الإنجليزية)، ولكن ولأن كلية الآداب تجعل عقول طلابها مفتوحة على كل الاتجاهات، عثرت على كنوز الأدب العربي وعشقتها، بل بلغت بي الجرأة والبجاحة أنني كتبت بها مقالا نشرته لي صحيفة يومية مرموقة، أخالف فيه الرأي سفير بلادي في موسكو، فأصيب رأسي بالاستسقاء حتى صار عبئا على منكبي، وبعدها بسنوات نشرت لي جريدة «الرأي العام» مقالا آخر، وكتبت بعدها عشرات المقالات، التي انتقلت من البريد إلى المزبلة، لأنني «صدقت نفسي»، وركبني وهم أنني كاتب متمكن أستطيع أن أخوض في الفاضي والمليان فتجد مقالاتي الترحيب. وبعدها «توبة»، فقد كانت المسألة مكلفة لأن كل مقال كان يتطلب شراء طابع بريدي وكانت قيمة الطابع (قرشا ونصف القرش، عندما كان للجنيه السوداني عضلات وكرش) تكفي لشراء وجبة متواضعة.
وفور مغادرة الجامعة مسلحا ببكالوريوس شرف، عملت بتدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية، متجاهلا نصيحة أساتذتي بمواصلة الدراسة لنيل الماجستير (لأنني لو قلت لوالدي إنني سأظل طالب علم ولو لشهر إضافي لحرمني من الميراث الافتراضي)، ورغم أنني طلقت التدريس بعد ممارسته لنحو سبع سنوات، إلا أنني أعتبر تلك السنوات أخصب فترة في حياتي المهنية، وبلا أي ادعاء للتواضع أقول إنني كنت مدرسا ناجحا جدا، ليس لأنني كنت مميزا عن بقية زملائي (بالعكس كان هناك مدرسو لغة إنجليزية زملاء لي تعلمت على أيديهم ما لم أتعلمه في المدارس والجامعة)، بل لأنني عشقت المهنة وكنت أحب طلابي، وكان همي أن أحببهم في اللغة الإنجليزية، وفي سبيل ذلك لم أكن أتقيد بالمنهج المقرر، بل كنت أحرص على حملهم على الإكثار من قراءة الروايات الإنجليزية، وأذكر أنني كنت مرشد صف أول في مدرسة الخرطوم بحري الثانوية الحكومية، وكان المرشد وقتها يسمى «أبو الفصل»، ولكنني كنت «أخو» الفصل أكثر مني «أبوه»، بمعنى أنني كنت صديقا لطلاب ذلك الفصل، وأهتم حتى بأحوالهم الخاصة، وأقسو عليهم فقط عند ارتكاب مخالفات سلوكية جسيمة. في سنة واحدة جعلت طلاب «أولى خالد» يقرؤون رواية إنجليزية كل أسبوع، ويخضعون لاختبار فيها قبل أن ننتقل إلى الرواية التالية، حتى لم يعد هناك كتاب في «مستواهم» في مخزن الكتب بالمدرسة، وعرفت لاحقا أن طريقتي تلك تسمى في علم تدريس اللغات total immersion أي الغمر الكامل، بمعنى تعريض الدارس بانتظام ومنهجية لتلك اللغة تخاطبا وقراءة وكتابة حتى «يغوص» فيها
وذات مرة نشرت السفارة البريطانية في الخرطوم إعلانا عن رغبتها في توظيف مترجم / ضابط إعلام، وجلست للاختبار مع عشرات المتنافسين وفزت بالوظيفة، ليس بالضرورة لأن «إنجليزيتي» كانت الأفضل - فكثيرون من أبناء وبنات جيلي يتقنون الإنجليزية، رغم أنهم مهندسون أو قانونيون أو أطباء أو موظفو خدمة عامة - بل لأنني، وبحكم أنني كنت قارئا نهما، اجتزت المقابلة الشخصية (الإنترفيو) بجدارة لأنني كنت ملما بالكثير من القضايا العامة التي حاوروني فيها، وخلال عملي في السفارة أدمنت الصحف البريطانية، وعرفت قيمة ومغزى حرية الإعلام والتعبير، وفقدت وظيفتي في السفارة لاحقا لأنهم عرفوا أنني مرتاد سجون أي سبق لي دخول السجن -وكان ذلك خلال فترة حكم جعفر نميري- ويبدو أن البريطانيين لم يكونوا يريدون إغضاب الحكومة بتوظيف شخص مثلي مغضوب عليه حكوميا، وربما كان ذلك لأنني كنت أجاهر بأفكار معادية للحكومة.
تلك «الطردة» كانت نعمة، فقد عدت إلى ممارسة التدريس وسرعان ما وقع عليّ الاختيار لأكون ضمن دفعة للابتعاث إلى بريطانيا لدراسة فنون إنتاج البرامج التلفزيونية والتعليمية على نحو خاص، وبذلك انفتح الطريق أمامي إلى وسائل الإعلام
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك