مثّل التعاون الاقتصادي العربي أولوية متقدمة في صدارة اهتمامات جامعة الدول العربية منذ قيامها عام 1945، إدراكًا لدور هذا التعاون في تشبيك المصالح العربية، وتعزيز التضامن العربي، وتمتين أساس الأمن القومي العربي، حيث نص ميثاق الجامعة الذي تم إقراره في القاهرة يوم 19 مارس 1945، على ضرورة «تعميق التعاون العربي في كل المجالات الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والأمنية وغير ذلك من المجالات المتعددة».
وعلى مدى يناهز 80 عامًا دأبت «الجامعة»، على تحقيق التعاون الاقتصادي، سواء من حيث إرساء قواعده التشريعية والمؤسسية، أو تفعيله، أو إفراد قمم خاصة به، وإن كانت المحصلة النهائية إلى الآن مازالت دون الطموح العربي، مع نجاح منظمات إقليمية نشأت بعد الجامعة، كالآسيان والاتحاد الأوروبي في تحقيق هذا التعاون. ولإيمانها بأهميته في كل المجالات حرصت الجامعة على استمرار الجهد لبلوغ أهدافها، مدعومة بقرارات القمم العربية المتلاحقة، والذي من المؤمل أن يكتسب قوة دفع في «قمة المنامة» 2024.
ويمكن القول إن العمل الاقتصادي العربي المشترك قد مر بثلاث مراحل أساسية، الأولى امتدت من إنشاء الجامعة حتى نهاية عقد الستينيات، وشكلت بدايات التعاون الاقتصادي العربي، وكانت الثانية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وفيها قامت مؤسسات ومنظمات العمل العربي المشترك. أما الثالثة فقد بدأت في التسعينيات، بإقامة منطقة تجارة حرة عربية كآلية ملائمة للتكيف مع تطورات التجارة العالمية، في ضوء قيام منظمة التجارة العالمية في 1995، وتسارع الدول نحو الاندماج في الاقتصاد العالمي.
في المرحلة الأولى تم تبني مفهوم التعامل التفضيلي بين الدول العربية، وأن التعاون الاقتصادي مطلوب منه أن يخدم أهداف الدول العربية في تعزيز سيادتها واستقلالها، وفيها تم إبرام معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي في 18 يونيو1950، والتي أنشأت المجلس الاقتصادي (تغيرت تسميته في 1980 إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي)، كما تم إبرام العديد من الاتفاقات الجماعية التفضيلية والمجالس الوزارية، واللجان الدائمة لتحقيق الأغراض الاقتصادية التي نص عليها الميثاق، وكان من أهم هذه الاتفاقات: «اتفاقية تسهيل التبادل التجاري وتنظيم تجارة الترانزيت» في 1953، و«اتفاقية إنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية» في 1957. وفيما اهتمت الاتفاقية الأولى بمنح تفضيلات جمركية، وإعفاءات للسلع الوطنية المتبادلة بين الدول العربية، وتسهيلات لتجارة الترانزيت، فقد اهتمت الثانية بإقامة وحدة اقتصادية وحرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال، وحرية التملك، وتبادل السلع والمنتجات الوطنية، وتسهيل حركة النقل، وتحويل المنطقة العربية إلى منطقة جمركية موحدة، وأصدر مجلس الوحدة الاقتصادية قراره في 1964 بإنشاء السوق العربية المشتركة، غير أن ذلك لم يتحقق إلى الآن.
في هذه المرحلة أيضًا نشأت «المنظمة العربية للتنمية الإدارية» في 1961، و«منظمة العمل العربية» في 1965، و«المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة» في 1968، و«منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط» في 1969، وقد أنشأت الأخيرة عدة شركات: (الشركة العربية البحرية لنقل البترول، الشركة العربية للاستثمارات البترولية، الشركة العربية لبناء وإصلاح السفن، الشركة العربية للخدمات البترولية، ومعهد النفط العربي)، وكان العامل الرئيسي في ضعف فاعلية الاتفاقات المعقودة، هو ضعف وضيق القاعدة الإنتاجية للبلدان العربية وتشابه هياكلها.
ومع ذلك، فقد مثّل تعديل أسعار النفط عام 1974 قوة دفع للتعاون الاقتصادي العربي، واهتمام الدول النفطية باستثمار عوائدها في محيطها العربي، وتوسيع قاعدتها الإنتاجية، وتنويعها وتطوير البنية الأساسية الداعمة للتعاون الاقتصادي العربي؛ فشهدت المرحلة الثانية تسارع الإنجازات على مستوى التعاون الاقتصادي العربي، ومن ذلك إنشاء «المؤسسة العربية لضمان الاستثمار» في 1970، و«المنظمة العربية للتنمية الزراعية» في 1970، و«الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي» في 1971، و«الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري» في 1972، و«البنك العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا» في 1973، و«صندوق النقد العربي» في 1975، و«الهيئة العربية للاستثمار والتنمية الزراعية» في 1976، و«المنظمة العربية للاتصالات الفضائية» في 1976، و«الهيئة العربية للتنمية الصناعية والتعدين» في 1978، و«الهيئة العربية للطاقة الذرية» في 1982.
وفي بداية عِقد الثمانينيات تم إدماج البعد الاجتماعي ضمن مشروعات العمل الاقتصادي العربي المشترك، كما شهد هذا العِقد نشاطًا في العلاقات الاقتصادية الثنائية العربية ومتعددة الأطراف، فقام «مجلس التعاون الخليجي»، و«اتحاد المغرب العربي»، كما تم إبرام اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية في 1981، ودخلت حيز التنفيذ في 1992، وتربط بين الأهداف التنموية والتجارية، وإمكانية إقامة منطقة تجارة حرة واتحاد جمركي؛ ما جعلها تشكل الأساس القانوني لمراحل التكامل الاقتصادي العربي، ويشرف على تنفيذ هذه الاتفاقية المجلس الاقتصادي والاجتماعي، بمشاركة فاعلة من المؤسسات المالية العربية، والمنظمات العربية المتخصصة، ومؤسسات القطاع الخاص، وكان من أبرز عقبات المرحلة الثانية ضعف التزام عديد من الدول العربية بتطبيق الاتفاقيات، وعدم توافر الظروف السياسية والاقتصادية لتحقيق التكامل الاقتصادي.
غير أن التطور في المرحلتين الأولى والثانية كان ضروريًا لتهيئة الاقتصادات العربية للدخول بفاعلية في اتجاه التكامل الاقتصادي، وبدأت هذه الاقتصادات منذ أواخر الثمانينيات في إجراء إصلاحات هيكلية لجهة التحول لاقتصاد السوق، ودور أكبر للقطاع الخاص، ما شكل عاملاً مساعدًا للمرحلة الجديدة من العمل الاقتصادي العربي المشترك، تقوم على حرية التبادل التجاري، وتعزيز حركة رأس المال، وانتقال العمالة بين الدول العربية. وقد توصلت الدول العربية إلى وضع برنامج تنفيذي لتفعيل اتفاقية تنمية، وتيسير التبادل التجاري، بإقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى خلال مرحلة انتقالية مدتها 10 سنوات تبدأ من 1998 حتى 2007، ثم تم اختصارها إلى 2005، حيث تم استكمال البناء المؤسسي، وإلغاء كل القيود غير الجمركية على السلع العربية المتبادلة، وعند انتهاء الفترة الانتقالية تصبح السلع العربية المنشأ المتبادلة معفاة من جميع الرسوم الجمركية والرسوم ذات الأثر المماثل.
ولإعطاء قوة دفع للعمل المشترك في كل مجالاته، تقدمت «السعودية»، إلى القمة العربية الـ (16) في تونس 2004، بمبادرة «وثيقة العهد والوفاق والتضامن»، التي نصت على الالتزام بتطوير العمل العربي المشترك في كل المجالات، وإصلاح آليات عمل الجامعة، وفيها جدد القادة العرب التزامهم بميثاق الجامعة، وتنفيذ القرارات المتخذة في إطارها، بما في ذلك استكمال إنجاز منطقة التجارة الحرة، وإقامة الاتحاد الجمركي العربي، ووضع استراتيجية اقتصادية عربية متكاملة، بل وجهت هذه القمة إلى الإسراع بإنجاز السوق العربية المشتركة.
ومع ازدياد جدول أعمال الشأن الاقتصادي، اتجهت القمة العربية إلى عقد قمم خاصة به، كان أولها قمة الكويت 2009، التي اتجهت إلى تحقيق الاتحاد الجمركي العربي بحلول 2015، والسوق العربية المشتركة بحلول 2020، بينما أطلق أمير الكويت الراحل الشيخ «صباح الأحمد الجابر الصباح»، مبادرة إنشاء صندوق لدعم وتمويل المشاريع التنموية برأس مال ملياري دولار تسهم فيه الكويت بمبلغ 500 مليون دولار، واتجهت القمة إلى إعطاء الأولوية للاستثمارات العربية المشتركة، ومزيد من الفرص للقطاع الخاص والمجتمع المدني، فيما أقرت القمة تبني القمم الاقتصادية وعقدها مرة كل عامين، وإلى ذلك جاءت القمة الاقتصادية الثانية في مصر 2011، ثم قمة الرياض 2013، وبعدها قمة بيروت 2019، ثم قمة نواكشوط في 2023.
ووصولاً إلى المرحلة الثانية في التكامل الاقتصادي، وهي مرحلة «الاتحاد الجمركي»، تمكنت الجامعة العربية من إبرام اتفاقية التعاون الجمركي بين الدول العربية في 2022، وهي التي تستهدف تعزيز التعاون بين الإدارات الجمركية العربية، لتبادل المعلومات وتسهل التجارة البينية، من خلال تبسيط الإجراءات الجمركية، كما كانت قمة الرياض الاقتصادية، قد أكدت عام 2015 موعدًا لإطلاق الاتحاد الجمركي العربي، وبسبب بطء المفاوضات وتشعبها قررت قمة بيروت في 2019، تأجيل الموعد.
ومنذ قمة القاهرة 2011، شرعت «لجنة الاتحاد الجمركي العربي»، وهي اللجنة التي بدأت أعمالها في 2007 في دراسة الأقسام المختلفة المعنية بالقانون الجمركي الموحد، والتعريفة الجمركية الموحدة والضرائب غير المباشرة، وغير ذلك من القضايا، فيما أنهت اللجنة إعداد مشروع هذا القانون وملحقاته في 2019، واعتمدته الدورة العادية 105 للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في فبراير 2020، وفي نفس الاجتماع تم اعتماد دليل الإجراءات الجمركية الموحد، ولكن إلى الآن لم يبدأ الاتحاد الجمركي العربي، الذي يشكل نقلة نوعية في التعاملات الاقتصادية العربية مع الاقتصادات الأخرى.
وتعزيزًا لهذه التعاملات، عملت الجامعة العربية على شراكات مع القوى الاقتصادية في العالم؛ كالمنتدى الاقتصادي العربي الصيني، والعربي الهندي، والعربي التركي، والقمة الاقتصادية العربية الأمريكية، والعربية الإفريقية، والعربية مع أمريكا الجنوبية، والعربية مع آسيا الوسطى، والعربية البريطانية، والعربية الفرنسية.
وامتد نشاط الجامعة في الشأن الاقتصادي إلى مشروعات الأمن الغذائي، والمائي، والتنمية الزراعية، من خلال «المنظمة العربية للتنمية الزراعية»، فيما أقرت قمة الجزائر في 2022، البرنامج العربي للأمن الغذائي المستدام، الذي يواكب المتغيرات المعاصرة، ويتعامل مع التهديدات والمخاطر المستحدثة، وقد امتد نشاط هذه المنظمة إلى الحد من الفقر الريفي، والأمن المائي بمشاريع حصاد المياه بتخزين مياه الأمطار، وتبطين قنوات الري، وإنشاء بحيرات جبلية، وترشيد استخدام المياه، وإعداد برنامج طوارئ للأمن الغذائي العربي، والتحرك من خلال استراتيجية عربية للتنمية الزراعية المستدامة، وتعزيز التكامل الزراعي العربي، ومشروع الإدارة المتكاملة للموارد المائية لتحقيق تنمية مستدامة في المنطقة العربية، والحد من تغول مياه البحر على المياه الجوفية، وأثر التغيرات المناخية، و«الاستراتيجية العربية للأمن المائي 2010 – 2030»، و«الاستراتيجية العربية لتطوير استخدامات الطاقة النظيفة».
وفيما زاد حجم التجارة العربية في السلع والخدمات بنسبة 32.3% في 2022 عن السنة السابقة ليبلغ 3.5 تريليونات دولار طبقًا لبيانات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، بصادرات أكثر من تريليوني دولار وواردات نحو 1.5 تريليون دولار، وبفائض في الميزان التجاري 558 مليار دولار (استحوذت الإمارات والسعودية والعراق وقطر والكويت على نحو 81% من مجمل الصادرات)؛ فقد بلغت التجارة العربية البينية في السلع 508.2 مليارات دولار بنسبة 17.8% من إجمالي التجارة العربية السلعية، محققة زيادة بنسبة 43.5% عن السنة السابقة.
وتعكس هذه الأرقام درجة عالية من التطور في التعاون الاقتصادي العربي، فيما بلغ الرقم التقديري لهذه التجارة نحو 700 مليار دولار في 2023، فيما تمضي الجهود لتعزيز الاستثمارات العربية البينية، التي تتراوح وفقًا لاتحاد الغرف التجارية العربية بين 16 – 20%، فيما تختزن المنطقة العربية فرصا بارزة لجذب هذه الاستثمارات. وفي عام 2022 بلغ عدد مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد إلى المنطقة العربية 1617 مشروعا بنسبة زيادة 74%، وبتكلفة استثمارية بلغت 200 مليار دولار، فيما زاد عدد مشاريع الاستثمار العربي البيني بمعدل 84% إلى 245 مشروعا في 2022 بتكلفة 45.6 مليار دولار.
على العموم، شغل الشأن الاقتصادي إذن جانبًا كبيرًا في اهتمامات القمم العربية، والوضع الآن مقارنة بما سبق -برغم الظروف المتأزمة في عدد من البلدان العربية- يبشر بمؤشرات جيدة، فيما لو تم تحقيق الأمن والاستقرار في البيئة العربية، ما يوفر أول شروط نهوض التعاون الاقتصادي العربي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك