الإبادة الجماعية للبشر(genocide) معروفة ومقننة منذ الأربعينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في اتفاقيات جنيف لعام 1948، حيث تم تعريفها بأنها: «التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة من الناس بسبب عرقهم، أو جنسيتهم، أو دينهم، أو أصلهم»، فهذه الإبادة الجماعية للبشر صُنِّفت بإجماع كل دول العالم، كجريمة حرب على المستوى الدولي.
ولكن الإبادة الجماعية للبشر في غزة والتي بدأت منذ السابع من أكتوبر 2023، ألقت الأضواء في الوقت نفسه على نوعٍ من الإبادة الجماعية يُعد حديثا نسبياً على المجتمع الدولي، ويأخذ الآن طريقه رويداً رويداً ضمن قائمة جرائم الحرب الدولية.
وهذا النوع الجديد نسبياً من جرائم الحرب يتمثل في التدمير الشامل المنهجي والمتعمد لمساكن المدنيين ومنازلهم وعماراتهم، إضافة إلى تدمير البنية التحتية المدنية التي تُقدم الخدمات الأساسية الضرورية لحياة لائقة وكريمة للبشر، سواء أكانت الكهرباء، أو مياه الشرب، أو معالجة مياه المجاري والقمامة، أو المزارع والحقول المثمرة (راجع تحقيق صحيفة الواشنطن بوست في 4 مايو تحت عنوان: «الهجمات الإسرائيلية دمرت قدرة غزة على زراعة غذائها»)، وغيرها من الخدمات التي لا يمكن أن يعيش الإنسان حياة كريمة ولائقة بدونها.
وهذه الفكرة المستجدة ظهرت في القليل من الدراسات العلمية الأكاديمية منذ السبعينيات من القرن المنصرم، وهي باختصار تدعو إلى تصنيف «التدمير الشامل للمساكن أثناء الحروب والنزاعات كجريمة حرب دولية»، وأُطلق عليها مصطلح «دُوْمِيسَيدْ» (domicide)، وأصله عبارة لاتينية مكونة من كلمتين، الأولى (domus) بمعنى بيت ومنزل، والثانية (cide) أو (caedo) بمعنى القتل المتعمد.
وفي عام 2001 تم نشر كتاب تحت عنوان: «دوموسيد: التدمير الدولي للمنازل»، وهذا الكتاب يُقدم تعريفاً مختصراً لهذا المصطلح وهو: «تدمير المنازل، وهدم المنازل بصفةٍ متعمدة بدون رضا الساكنين فيها». وهناك تعريف آخر الآن هو: «التدمير المتعمد الشامل لأماكن السكن مما يجعل المنطقة غير صالحة وغير ملائمة للحياة»، كذلك التعريف الذي يقول إن «الدوموسيد» هو: «التدمير المتعمد والمنهجي للمنازل والبنية التحتية الأساسية بحيث يصبح المكان غير قابل للسكن والحياة».
أما على مستوى الأمم المتحدة، ففي 28 أكتوبر 2022 نشرتْ «مفوضية الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان» تقريراً من إعداد «بالاكريشنان راجاغوبال» (Balakrishnan Rajagopal) المقرر الخاص بالحق في السكن اللائق. وجاء التقرير تحت عنوان: «يجب الاعتراف بالـ(دُوْمِيسَايد) كجريمة دولية»، وعرَّف المصطلح الجديد بأنه: «التدمير الشامل والعشوائي أو المنهجي لمساكن المدنيين في النزاعات المسلحة»، وأكد في التقرير الذي عُرض على الجمعية العمومية للأمم المتحدة على أهمية الاعتراف بهذا النوع من الإبادة الشاملة كجريمة حرب دولية انطلاقاً من القانون الدولي.
وفي 29 يناير 2024، نشر المقرر الأممي الخاص بالسكن اللائق مقالاً في صحيفة «النيويورك تايمز«، تحت عنوان: «لماذا يجب تصنيف (الدوموسيد) كجريمة ضد الإنسانية»، حيث دعا إلى تحديث وتطوير المعاهدات والقوانين والمحاكم الدولية المختصة بجرائم الحروب والنزاعات إلى ضم هذا النوع الجديد من الإبادة الشاملة كجريمة حرب يحاسب عليها كل من يرتكبها، كما ذكر أن ما حدث في غزة من تدمير شامل للسكن والبنية التحتية الخدمية للمدنيين يرقى إلى جريمة حرب، لما فيها من التعدي الواضح على حقوق الإنسان الأساسية التي منها حقه في السكن المناسب والملائم الذي يجعله يعيش حياة كريمة ولائقة.
فما وقع في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 لم يشهد له التاريخ مثيلاً، ولا يمكن إخفاؤه أو غض الطرف عنه وتجاهله، فما وقع كان بالصوت والصورة أمام الجميع، ومشاهد الدمار الشامل والإبادة الكاملة للبنية التحتية السكنية والخدمية كانت تُنقل مباشرة وفوراً لكل إنسان يعيش على سطح الأرض. فالكل رأى بأم عينيه طائرات الكيان الصهيوني الأمريكية الصنع وهي تقذف على مدى أشهر طويلة الآلاف من القنابل (الغبية) والعشوائية التي تزن نحو طن واحد، وأمام الجميع كانت المباني، والمنازل، والعمارات السكنية تسقط مرة واحدة في ثانية واحدة، وأمام الجميع تكرر هذا المنظر التدميري الشامل لأكثر من سبعة أشهر، وأمام الجميع كانت مشاهد النساء، والأطفال، والشيوخ وهم يُحملون على أيدي الناس سريعاً لنقلهم إلى حيث الأمان، وأمام الجميع كان الناس يشاهدون ويتحسسون البشر صغاراً وكباراً، شيوخاً وأطفالاً، أحياءً وأمواتاً وهم يؤخذون من تحت الركام والتراب وحطام المباني. فالتدمير حتى اليوم شمل أكثر من 70% من المساكن، والمساجد، والجامعات، والكنائس، والمباني الإدارية، والمقابر، حيث أفادت التقديرات الأممية الأولية بأن القصف الوحشي قضى كلياً على أكثر من 70 ألف وحدة سكنية، إضافة إلى 290 ألف وحدة سكنية تم تدميرها جزئياً، علماً بأن هذه الأرقام في ارتفاع مطرد مع كل يوم تستمر فيه الحرب.
فهذه الإبادة الجماعية والشاملة للمساكن خلفت أكثر من 650 ألف إنسان نازح من بيته ومسقط رأسه وليس لهم سكن ومأوى ينام فيه، بحسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وهذا العدد المهول يساوي أكثر من 40% من سكان غزة. كذلك فإن صور الأقمار الصناعية التي نشرتها جامعة ولاية أوريجون وجامعة مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية أكدت أنه قد تم هدم أكثر من 82.9% من المباني في شمال غزة فقط كلياً أو جزئياً.
فمثل هذا التدمير الشامل غير المسبوق تاريخياً للمساكن، صاحبه تدمير جماعي شامل للصحة النفسية والجسدية والعقلية للذين فقدوا منازلهم وأماكن سكنهم الخاص بهم، وفقدوا ذكرياتهم التي حملوها معهم أثناء سكنهم في البيت، ذكريات الطفولة، والشباب، والشيخوخة. فهؤلاء الناس بنوا بيوتهم ولكافة أفراد أسرهم في سنوات طويلة، وربما كل منهم قد أنفق جُل ماله الذي جمعه طوال سنوات حياته من العمل الدؤوب والشاق والمؤلم، ثم تأتي الطائرات الصهيونية فتُطلق صواريخها وقنابلها لتحول هذا البيت إلى ركام وحطام وتراب في أقل من ثانية واحدة، وكأن شيئاً لم يكن، ثم علاوة على هذا المنظر القاسي تأتي الصدمة القوية، والمعاناة النفسية والعاطفية العميقة التي ستستمر أبد الحياة ولا يمكن محوها، والتي لا يمكن تصويرها وصياغتها ورسمها بأي عبارة، أو كلمات عندما يقف الإنسان أمام منظر بيته وقد تحول إلى التراب. فهؤلاء البشر فقدوا كل شيء، كل استثمار حياتهم وجهدهم لبناء هذا السكن البسيط، ولا يمكن تعويضهم بأي ثمن وبأي مبلغ مالي.
فهذه الإبادة الشاملة لسكن البشر في حد ذاتها يجب أن تدخل ضمن جرائم الحرب الدولية، لما لها من وقع مدمر، وللبصمات العميقة والمؤلمة التي ستتركها على من فقد سكنه طوال ما تبقى من عمره، وفقد حقة كإنسان في السكن اللائق، فضاعت الأحلام، وماتت التطلعات للمستقبل المزدهر والمشرق، ولذلك يجب على كل من قام بهذا الدمار الشامل، وكل من أسهم بالدعم العسكري والمالي والسياسي والاعلامي، أن يتحمل هذه المسؤولية أمام المحاكم الدولية المختصة فيعاقب على هذه الإبادة الجماعية للمساكن والعمارات والبنية التحتية للمدنيين.
فهل سيأتي ذلك اليوم؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك