منذ تأسيسه عام 1949 انتهج حلف شمال الأطلسي «الناتو» استراتيجيات عديدة لتأسيس شراكات استراتيجية في مناطق يرى أنها تحتوي على مصالح حيوية لدوله ومن ثم فإن أمن واستقرار تلك المناطق يعد ضرورة استراتيجية، وللحلف جبهتان مهمتان، الأولى وهي الجبهة الشرقية والتي تضم أفغانستان وباكستان ودول آسيا الوسطى وتجربة الحلف مع تلك الجبهة معروفة للجميع ومنها التدخل في أفغانستان والانسحاب منها بعد عشرين عاماً في عام 2021 والجبهة الجنوبية وتضم دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط والخليج العربي والتي أولاها الحلف اهتماماً كبيراً من خلال إطلاق مبادرة الحوار المتوسطي عام 1994 وتضم سبع دول متوسطية بدأت حواراً مع الحلف منذ ذلك التاريخ وحتى الآن من خلال اجتماعات منتظمة على المستويات الوزارية وغيرها ضمن أجندة تضم القضايا المشتركة بين الجانبين، ومبادرة إسطنبول للتعاون مع دول الخليج العربي عام 2004 والتي انضمت إليها أربع دول خليجية ولا تزال كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان خارج تلك المبادرة حتى الآن وتتضمن مجالات عديدة للتعاون الأمني من خلال برامج فردية وفق صيغة 32+1 أي الحلف ككل مقابل كل دولة على حدة، ولم يكتف الحلف بذلك فقد سعى إلى المزيد من مأسسة علاقته بالجنوب وخاصة دول الخليج العربي التي يعتبرها الحلف شركاء استراتيجيين، ففي فبراير عام 2017 قرر وزراء دفاع الناتو تأسيس مركز الجنوب والذي استهدف تنسيق المعلومات حول الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومقره مدينة نابولي في إيطاليا، وفي يناير من العام ذاته افتتح الناتو المركز الإقليمي لحلف الناتو ومبادرة إسطنبول للتعاون في الكويت والذي استهدف تقديم دورات تدريبية وورش عمل ومحاضرات حول أمن الطاقة والتخطيط الاستراتيجي والتخطيط لحالات الطوارئ المدنية وإدارة الأزمات وغيرها من القضايا التي يرى الحلف ودول مبادرة استانبول أنها تمثل تحدياً مشتركاً وتتطلب المزيد من الوعي بشأنها.
ولا شك أن وجود أطر مؤسسية منتظمة من شأنها تعزيز الشراكات والدفع بها قدماً، وهو ما يوليه الحلف أهمية بالغة بل إن قمة الحلف القادمة في واشنطن والتي سوف تنعقد في يونيو 2024 سوف تخصص بنداً لعلاقة حلف الناتو بدول الجنوب، وهو الأمر الذي سوف يتزامن مع مناسبتين مهمتين الأولى: احتفال الحلف بمرور خمسة وسبعين عاماً على تأسيسه، والثانية: مرور عشرين عاماً على إطلاق مبادرة استانبول للتعاون بين الحلف ودول الخليج العربي، وجميعها أحداث مهمة، ولكن إذا كان الحلف معني بتقييم استراتيجيته بعد مرور 75 عاماً فإن التساؤل المهم أيضاً يثار لدى الجبهة الجنوبية للحلف وخاصة في ظل ثلاثة مداخل مهمة أولها: هل أن البيئة الأمنية التي تم خلالها إطلاق مبادرات الحلف تجاه الجنوب هي ذاتها في الوقت الراهن؟ وثانيها: هل هناك حاجة إلى أسس ومضامين لشراكة جديدة بين الحلف ودول الجنوب؟ وثالثها: ما معوقات تطور تلك الشراكة؟
وواقع الأمر أن البيئة الأمنية الراهنة تختلف بشكل جذري عن تلك التي أطلق فيها الحلف مبادراته تجاه الجنوب، فآنذاك كانت أجواء مناخ دولي جديد بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة وسعي الحلف إلى تعزيز دوره خارج أراضيه ولكن كانت التهديدات التقليدية هي السائدة سواء الإرهاب أو غيره من مساعي بعض الدول لامتلاك سلاح نووي وكذلك تهديدات أمن الطاقة، وقد عكس المفهوم الاستراتيجي للحلف الذي يصدر كل عشر سنوات بعضاً من مدركات الحلف لتلك التهديدات وسبل مواجهتها، صحيح أنه لم يشر إلى دول الجنوب تحديداً ولكنه كان يشار إليها ضمن مفهوم «الشركاء»، ولكن الآن تواجه دول الجنوب قائمة طويلة من التهديدات الأمنية الحادة والمتزامنة منها تهديدات الأمن البحري والتهديدات السيبرانية والكوارث البحرية وغيرها من التهديدات، وبالنظر إلى دول الخليج العربي كدول صغرى ومتوسطة فإنه من بين خياراتها تأسيس شراكات دولية ولذا فإن التساؤل حول دور الحلف تجاه تلك التهديدات يعد أمراً منطقياً، فبمقارنة سريعة في مجال الأمن البحري على سبيل المثال أرسل الاتحاد الأوروبي حتى الآن أربع بعثات بحرية للشرق الأوسط وهي إيريني قبالة السواحل الليبية عام 2020 لمنع وصول الأسلحة لأطراف الصراع في ليبيا، وفي العام ذاته أعلنت فرنسا قيادة بعثة أوروبية لمراقبة الملاحة البحرية في مضيق هرمز بدعم ثماني دول أوروبية ومقرها مدينة أبوظبي، أما البعثة الثالثة فكانت أتلانتا لمكافحة القرصنة قبالة القرن الإفريقي والتي تأسست عام 2008 أما البعثة الرابعة فهي «أسبايدس» في فبراير 2024 لحماية الشحن البحري من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وباب المندب، في مقابل ذلك أرسل الحلف بعثة بحرية واحدة في عام 2008 «درع المحيط» لمكافحة القرصنة في سواحل الصومال ولكنها غادرت في عام 2016 تجاه البحر الأسود وفقاً لأولويات الحلف الأمنية آنذاك، ولم يكن ذلك سوى على سبيل المثال ، واتصالاً بما سبق فإن ثمة حاجة إلى تجديد شراكات الناتو مع دول الجنوب، ولكن من المهم للغاية تحديد مفهوم الجنوب وأن يكون ضمن ذلك المفهوم أولويات للحلف، لأنه إذا ما نظرنا على سبيل المثال إلى المفهوم الاستراتيجي للحلف الصادر في عام 2022 نجد أن أولوياته هي مكافحة الإرهاب في دول الساحل الإفريقي في حين أن تهديدات الأمن البحري هي ذات الأولوية لدول الخليج العربي بما يعنيه ذلك من أنه يجب أن يكون واضحاً لدى الحلف المقصود بالجنوب وألا يكون مفهوماً فضفاضاً، ولا شك أن تغير طبيعة الأمن جراء تأثير التكنولوجيا والتي غيرت قواعد الاشتباك وكذلك استراتيجيات الدفاع أمر مهم ويثير تساؤلات حول مدى استعداد الناتو لدعم الشركاء بالتكنولوجيا العسكرية، وأخيراً فإن سبل التعامل مع الأزمات والكوارث أمر له وجاهته في ظل الكوارث البحرية المحتملة جراء استهداف السفن التجارية وأيضاً تداعيات تغير المناخ، ولاشك أن الاتفاق على مسار جديد للشراكة ليس بالأمر اليسير ولكنه يرتكز بشكل أساسي على وثائق الحلف الرسمية ومن بينها توقع صدور رؤية الحلف 2030 في مايو الحالي والتي ربما تحمل في طياتها الجديد بالنسبة إلى شركاء الحلف من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومن بينها دول الخليج العربي، صحيح أن للحلف ميثاقا يحول دون تقديم مساعدة أمنية سوى لدوله الأعضاء وفقاً لما تنص عليه المادة الخامسة صراحة إلا أن شراكات الحلف التي امتدت لعقود قد أسست على الأقل فهما مشتركا لواقع البيئة الأمنية الإقليمية التي تتداخل فيها التحديات بشكل غير مسبوق وربما أضحى من السهل الآن الحديث صراحة وتحديد هواجس ومطالب دول الجنوب من الحلف أخذاً في الاعتبار ولوج أطراف دولية للمنطقة وبقوة ويمثل بلا شك تحديا لشراكات الحلف.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك