إن خلافنا الفكري مع العَلْمانية لن يتوقف ما دامت هناك أسباب للخلاف موجودة، فهم-أي العَلْمانيون- يدعون، ويلحون في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة بكل ما تمثله الدولة في تعريفها الحديث، وبما تضمه من إدارات يحتاج إليها المسلم، وهم بهذا يقصرون الدين على العبادات فقط، أما المبادئ والقيم التي جاء الإسلام لإرسائها، والدفاع عنها فلها مكان الصدارة في حياة المسلمين، ولقد بُعِثَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدعوة إليها، وحمل المسلمين بإرادتهم الحرة على العمل بها، واتباع سبيلها القويم، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» الألباني / السلسلة الصحيحة.
إذًا، فمهمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليست مقصورة على إبلاغهم هذه القيم، بل من مهماته عليه الصلاة والسلام أن يتمثلها في حياته ويعمل بها، ولهذا قالت أم المؤمنين السيدة عائشة (رضي الله تعالى عنها) لما سئلت عن رسول الله وعن أخلاقه، قالت لهم: كان خلقه القرآن!
إن الإسلام الذي تدعو العلْمانية إلى فصله عن الدولة -أي عن الحياة- هو الإسلام الشامل: عقيدة، وشريعة، وعبادات، ومعاملات، وأخلاق.. الدين الذي قال الله تعالى عنه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) المائدة / 3.
وانظروا إلى هذه الجرأة على الله تعالى، الله تعالى يقول: (ورضيت لكم الإسلام دينًا) والعَلْمانية تريد لنا غير الإسلام دينًا!
إن القرآن العظيم مليء بالأوامر والنواهي الإلهية التي تدعو المسلم إلى الالتزام بها، والعمل على هديها وبمقتضاها كما فعل سلفنا الصالح من أئمة الإسلام وتابعيهم (رضوان الله تعالى عنهم)، ولهذا فلا تشريع يسبق الشريعة الإسلامية، قد يلحقها فيما يستجد من أمور حياتنا، والذي جوز فيه الاختلاف والاجتهاد، أما في الآيات المحكمة فلا مجال فيها للاجتهاد.
وتأملوا، ثم تدبروا كيف جمع الحق سبحانه وتعالى الإسلام في جملة قصيرة جمعت كل خصال الخير، يقول تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فصلت / 30.
الاستقامة في الأقوال والأفعال والعمل الصالح، هذا هو زاد المؤمن إلى الآخرة، والعَلْمانية تريد حرماننا من هذا الزاد الحلال الطيب الذي به تكتسب الحسنات، وتمحى به السيئات، بل به تبدل السيئات حسنات، يقول الحق سبحانه: (والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا (70)) الفرقان.
إن للإسلام هيمنته على حياة المسلم في مأكله ومشربه، يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) البقرة / 172.
إذًا، فتحري الحلال في الطعام والشراب هي بداية لًأي عمل صالح، لأن الجوارح التي مطعمها حرام، ومشربها حرام لا يتقبل منها عمل مهما كان صالحًا، والعَلْمانية لا تتحرج من أكل الخبيث من الطعام والشراب ومنها المسكرات التي تسميها بغير اسمها كالمشروبات الروحية وهي الخمور التي يحرمها الإسلام.
والعلاقات بين الرجال والنساء محرمة إلا ما أباحه الإسلام، بل لقد شدد الإسلام على حرمة العقود التي تبيح ما حرم الله تعالى، ولهذا وصف عقد الزواج بصفة تميزه عن باقي العقود حيث سماه بالميثاق الغليظ! ويتدخل الإسلام في العقود التجارية، وينظمها على أساس مبدأ الحلال والحرام، فحرم الربا، والغش والرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، ومن شدة اهتمامه بتوثيق العقود والديون أنه أفرد لتوثيق الديون صفحة كاملة في القرآن الكريم، انظروا إلى الآية (282) من سورة البقرة.
وفي العلاقات الدولية تكفلت آيتان بالاهتمام بعلاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى، قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولَم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)) الممتحنة.
فالدولة الإسلامية لا تكتفي بحسن الجوار للدول المسالمة لها، بل تبذل لهم البر والقسط، وانظروا حسن معاملتها للأسرى الذين لا حول لهم ولا قوة كيف يعنى الإسلام بحقوقهم ويرأف بهم، يقول تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا (9) إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرا (10) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقَّاهم نضرة وسرورا (11 )) الإنسان.
وأما علاقة الإسلام بالدولة ومؤسساتها التي ينكرها العَلْمانيون، فنجدها في قول أمير الشعراء أحمد شوقي في البيت الذي اقتبس شوقي مفردات قصيدته من الإسلام حين قال:
الدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شورى والحقوق قضاء
وهذا يعني أن الدولة في الإسلام مدنية بمرجعية إسلامية في الحلال والحرام.
إذًا، فنستطيع أن نقول على الإجمال لا التفصيل إن المسلم في الإسلام عبد لله تعالى، خاضع لمشيئته، طائع لأوامره ونواهيه، وأن عظمة الإسلام تتجلى في سمو تعاليمه في العلاقات بين الإنسان والوجود من حوله، حتى الحيوان له نصيب مفروض من رحمة الإسلام، ورفقه، فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وشكر الله تعالى لرجل سقى كلبًا اشتد به العطش، فشكر الله له وغفر لًه.
وعن جبل أحد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أحدٌ جبل يحبنا ونحبه!
وعن علاقة أهل الفكر والقلم بالحاكم: قال أحد المفكرين العَلْمانيين: إني أقبل أن يحاكمني الحاكم بصح وخطأ، ولا يحاكمني بالحلال والحرام، ويعلم هذا العَلْماني أن في الإسلام لا تسقط الجريمة بمضي المدة، بل يحملها صاحبها معه ويحاسب عليها يوم القيامة، لذلك هم لا يريدون الإسلام حاكمًا لسلوكهم، ومهيمنًا على تصرفاتهم.
وعلى هذا يصح أن نقول ونحن على ثقة: إن العَلْمانية التي هذه حالها، وما تنطوي عليه من خلط للمفاهيم، وخروج على تعاليم الإسلام، هي عَلْمانية.. ناقصة عقل ودين، وأنها لا محل لها من الإعراب في دنيا المسلمين وآخرتهم!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك