منذ ما قبل 200 يوم فقط، كانت دول الغرب تطبل وتجعل شعوب العالم يرقص على أنغام الحرية والديمقراطية، وكلما قامت جماعة أو مجموعة من الأفراد في أي دولة من العالم باحتجاج على شيء، أيًا كان نوع هذا الاحتجاج، حتى وإن كان الأمر بسيطًا، فإن دول العالم الغربي ينتفض عن بكرة أبيه وتطالب تلك الدولة وخاصة دول العالم الثالث وبالذات الدول العربية والإسلامية بتفهم مطالب تلك الجماعة، واللجوء إلى العقلانية وضبط النفس، والحوار وأن تدع الجماعة تعبر عن آرائها ويجب تحقيق مطالبها من باب الحرية والديمقراطية وما إلى ذلك من مصطلحات كثيرة، لو كتبت في كتب لطُبع منها اليوم عشرات المجلدات والكتب.
واليوم وبعد انقضاء الـ 200 يوم على محاولة قوات الاحتلال اجتياح غزة، انكشف الخداع، وتطايرت الكلمات فمسحها الهواء المتطاير، إذ تبين أنها مجرد كلمات جوفاء، ليست ذات قيمة حقيقية حتى عند من سطرها وكتبها، فقد كان الحبر الذي كتبت به تلك الشعارات لا يساوي ثمن ورقة واحدة من الأوراق التي كتبت عليها، فقد انكشفت ومسحت، وتطايرت وتساقطت تحت أقدام تمثال الحرية، أو ذلك الصنم المعبود والذي يدعي أنه يرفع شعارات الحرية.
وفي الحقيقة فإن صنم الحرية سقط على الأرض ربما بسبب كثرة الشعارات والهتافات والأوراق التي لا قيمة لها، فتناثرت الحرية والديمقراطية مع سقوط الصنم وتكسره.
يعتقد الغرب أنه (منارة الحرية وحقوق الإنسان)، بالأحرى إنه لا يعتقد، ولكنه يفرض نفسه على هذا الأساس، لذلك وجدت الشعوب الغربية نفسها حرة في التعري وممارسة الخبائث في الحدائق العامة، ولا يستطيع أحد أن يعترض على ذلك، فعرفت ذلك بحقوق الإنسان وبالحرية، وجدت الشعوب الغربية مرة أخرى أنها يمكن أن تتعاطى المسكرات والمخدرات، ولا أحد يعترض، وجدت تلك الشعوب أنها يمكن تحويل الجنس حتى من غير رغبة الوالدين، وجدت نساء الغرب أنهن يمكن أن ينجبن أطفالاً خارج إطار الزواج، وجد السارق أنه يمكن أن يسرق أمام عين القانون بشرط أن يتحايل على القانون ويجد الفجوات فيه، للمنتحر حرية الانتحار إن رغب، وجد القاتل أنه يمكن أن يقتل أي نفس المهم أن يكون ذلك من وراء القانون، وجد الكاتب أنه يمكن أن يتطاول على أي شخص من غير قيود أو حتى احترام للمواثيق، المهم أنه يمكن أن يتلاعب على القوانين.
في الغرب ينتشر الفساد الإداري والمالي في كل المؤسسات ومن غير استثناء، ويستشري التحرش في كل المدارس والمعاهد والجامعات، وأمور كثيرة لا حصر لها، كلها يمكن ممارستها بطريقة أو بأخرى، وحتى عندما انتشرت جائحة كوفيد-19 ترك للشعوب الغربية حرية الاختيار ما بين الموت والحياة، فمن يريد أن يعيش فليذهب بنفسه ليبحث عن العلاج والوقاية، وإلا فإن الموت هو النهاية الحتمية لمن لا يستطيع أن يوفر لنفسه الدواء، الأمر الذي يعكس مدى تجاهل دول الغرب لحياة وصحة الشعب التي تعتبر من حقوق الإنسان الأساسية.
في الغرب كله، ينتشر فيروس العنصرية ضد ذوي البشرة السمراء، أيًا كانت أصولهم ودرجاتهم العلمية، فحتى الرواتب والمكافآت تختلف، ليس بين البيض والسمر فحسب بل حتى بين الرجل والمرأة، وإن كانت بيضاء، ويمكن للراغبين في التعرف على ذلك العودة إلى كثير من المواقع الإلكترونية للاطلاع على تلك الحقائق.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الغرب يتدخل بكل صلافة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت ستار حقوق الإنسان وإثارة الاضطرابات والفوضى على الساحة الدولية.
في أغسطس 2022 أصدرت الجمعية الصينية لدراسات حقوق الإنسان تقريرًا أشارت فيه إلى أن دول الغرب ارتكبت سلسلة من الجرائم التي تنتهك فيها القانون الدولي بشكل خطير، بما في ذلك جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والاحتجاز التعسفي، والاعتداء بالتعذيب، وتعذيب السجناء، والعقوبات الأحادية العشوائية في منطقة الشرق الأوسط والمناطق المحيطة بها، مما يشكل انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان مع ضرر دائم وبعيد المدى.
وأشارت في التقرير إلى كتاب المؤرخ الأمريكي (بول أتوود) المعنون (الحرب والإمبراطورية: طريقة الحياة الأمريكية) الذي صدر في عام 2010، إلى أن «الحرب هي طريقة الحياة الأمريكية»، فمنذ تأسيس الولايات المتحدة، كان هناك أقل من 20 عامًا فقط لم تشارك فيها في حرب، مما يجعلها «إمبراطورية حرب» حقيقية.
فمنذ نهاية الحرب الباردة، شاركت دول الغرب في جميع الصراعات والحروب الرئيسية تقريبًا في منطقة الشرق الأوسط والمناطق المحيطة بها، والتي أصبحت المنطقة الأكثر تضررًا من الحروب الخارجية التي شنتها دول الغرب.
وقد أظهرت الإحصاءات الصادرة عن مجلة مؤسسة (سميثسونيان الأمريكية) أنه منذ عام 2001 غطت الحروب والعمليات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة باسم (مكافحة الإرهاب) «حوالي 40% من البلدان على هذا الكوكب».
يقول التقرير إنه لم تحشد الولايات المتحدة حلفاءها لشن حرب الخليج (1990-1991) وحرب أفغانستان (2001-2021) وحرب العراق (2003-2011) وغيرها من الحروب فحسب، بل انخرطت أيضًا بكثافة في الحرب الليبية والحرب السورية، مما خلق كارثة إنسانية نادرًا ما نراها في جميع أنحاء العالم، لقد تسببت دول الغرب المثيرة للحروب في إلحاق ضرر مباشر وخطير ودائم بحق السكان المحليين في الحياة والبقاء.
ومن جانب آخر، فقد قمعت دول الغرب بشكل عشوائي الدول والمنظمات غير الممتثلة في الشرق الأوسط، وعززت قسرًا القيم الغربية في المنطقة، من أجل ضمان فرض الأنظمة السياسية والاقتصادية والأمنية العالمية التي تهيمن عليها دول الغرب. والذي يتمثل هدفها الأساسي في الحفاظ على الهيمنة العسكرية والاقتصادية والمفاهيمية الغربية، الأمر الذي أدى نتيجة لذلك إلى تغيير مسارات التنمية المستقلة لبلدان المنطقة وقوض بشدة سيادة البلدان ذات الصلة في الشرق الأوسط إضافة إلى حقوق شعوبها في التنمية والصحة.
تحاول دول الغرب فرض التغيير في بلدان المنطقة وإنشاء أنظمة هشة تابعة لخدمة هيمنتها العالمية، وقد أدت (صادراتها المؤسسية) القسرية ذات النزعات المعززة للهيمنة إلى شل جهود بلدان المنطقة لاستكشاف مساراتها الإنمائية بشكل مستقل وتسببت في سلسلة من العواقب الوخيمة.
بالإضافة إلى أن دول الغرب لم تُظهر أي احترام لتنوع الحضارات، فقد كانت معادية للحضارة العربية الإسلامية، ودمرت التراث التاريخي والثقافي للشرق الأوسط، وسجنت وعذبت المسلمين بتهور، وانتهكت حقوق الإنسان الأساسية للبشر في الشرق الأوسط وأماكن أخرى بشكل خطير. كما أنها قامت بنشر (نظرية التهديد الإسلامي – الإسلاموفوبيا) حول العالم، ودعت إلى تفوق الحضارة الغربية، واحتقرت الحضارة غير الغربية، ووصمت الحضارة الإسلامية بأنها متخلفة وإرهابية وعنيفة.
ولقد أثبتت لنا سجلات التاريخ بشكل متكرّر أنه أينما تنفذ دول الغرب نظامًا قائمًا على (قواعد اللعبة) الغربية وتفرض ما يسمى بـ(القيم العالمية) بما فيها ما يسمى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فعندئذ ستقع هذه المناطق في مستنقع الفوضى والاضطراب الذي له تداعيات سلبية بلا نهاية.
ولكن الحقيقة تقول إن سجلات التاريخ لم تطو بعد، فمنذ عملية طوفان الأقصى بدأت موجات وتيارات الطوفان تتمدد من تلقاء ذاتها ويلقي بظلالها على دول الغرب، شاءت تلك الدول أم لم تشأ، فالشعوب الغربية بدأت تفهم وتتساءل عن موقف حكوماتها من تلك المجازر البشعة التي تقوم بها دولة الاحتلال، وبدأت تتساءل عن كل تلك الأموال (أموال الضرائب) التي كانت تدفعها لمصلحة من تذهب؟ وبدأت تتساءل من كل تلك المبادئ التي آمنت بها وتشربت بها دماؤهم، إلى أين صارت؟ وأسئلة كثيرة بدأت تطرحها الشعوب على حكوماتها ولم تجد لها أجوبة.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، ولكن أن تصل تلك الموجة إلى طلاب الجامعات، فإن ذلك أذهل قيادات تلك الدول، ليس ذلك فحسب وإنما أن تنتقل من جامعة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى فإن هذا الأمر لم يكن في الحسبان، وهذا ما شكل ضغطًا حقيقًيا على تلك الحكومات التي تدعي الحرية والديمقراطية، لذلك انكشف ورقة التوت، وسقطت الأقنعة، وسقطت الحريات والديمقراطيات لأن تلك الشعوب وهؤلاء الطلاب خرجوا ليس من أجل غزة فحسب، بل من أجل أنفسهم وحياتهم، إذ إنهم وجدوا أنفسهم في سجن كبير قضبانه مصنوعة من الحرية والديمقراطية، وإنما هي في الحقيقة مجتمعات هشة لم تقم على أي قيم أخلاقية أو عدالة أو أي قواعد متينة يمكن من خلالها أن تقوم لها قائمة في يوم من الأيام.
هؤلاء الطلاب وجدوا أنفسهم يواجهون الشرطة التي تحاول منعهم وتُضربهم بيد من حديد، لأنهم خرجوا للتعبير عن آرائهم والمطالبة بالحرية والديمقراطية، سُحل بعضهم وقيد عدد منهم إلى السجون، تساءل الطلاب: من الذي استدعى الشرطة؟ فوجدوا أن إدارة الجامعة وبالضغط من أعلى السلطات هي التي استدعت الشرطة.
تجلس أمام شاشة التلفزيون وتشاهد كل هذه الأحداث تجري أمامك، فتستغرب وتقول في نفسك: هل هذه الدول هي الدول ذاتها التي تدعي الحرية والديمقراطية؟ هل هذه الدول هي التي تفرض علينا وتلقننا دروسًا في فن التعامل مع الآراء وحريات الرأي؟
وعلى الرغم من كل الذي نشاهد ونقرأ إلا أن هناك الكثيرين منا ما زالوا يقدسون الغرب وأفكاره وأطروحاته، وصلافته وقيمه الهشة.
ومرة أخرى نقول، إن التاريخ لم يطو صفحاته ولم يجف حبره، فالتاريخ يسجل، والوقائع تكتب، ونحن في عصر الفضائيات المفتوحة، لذلك ننصح الجميع بالمراجعة الذاتية بكل جدية، والتخلي عن الادعاء والتحيُّز، ونبذ الهيمنة وعقلية الحرب الباردة، والحفاظ على النظام الدولي المنصف والمعقول، والدفع بقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان الحقيقية.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك