الحروب مهما طالت فستنتهي عاجلاً أم آجلاً، ولكن تداعياتها ستبقى خالدة مخلدة في مكونات بيئتنا وتهدد أمننا وسلامتنا، وبخاصة مخلفات القنابل والذخائر والصواريخ التي أُلقيت حتى ولو قبل مئات السنين، فبعضها مازال نشطاً ولم ينفجر، إضافة إلى الألغام الأرضية التي لا توجد سجلات عنها، من حيث الموقع والعدد، فتعرض حياة أي إنسان للموت أو الإعاقة الجسدية الدائمة.
فهذه المخلفات الحربية بعضها جاثمة على سطح التربة أو في أعماقها، وبعضها اختفت في أعماق البحار والمحيطات السحيقة، وستؤثر علينا بعد سنوات طويلة قادمة من الزمن، وقد تسبب تدميراً كبيراً للإنسان وبيئته في أية لحظة ومن حيث لا نحتسب.
فآخر حادثة نقلتها وسائل الإعلام كانت في 24 أبريل 2024، وحتماً لن تكون الأخيرة، وهي القنبلة التي لم تنفجر من مخلفات وبقايا الحرب العالمية الثانية، أي قبل أكثر من 80 عاماً، حيث تم العثور عليها بالقرب من ملعب «ماينز» (Mainz) الرياضي في مدينة ماينز الألمانية التي شهدت معارك جوية وبرية ضارية واسعة النطاق من القوات الأمريكية والبريطانية والروسية. وكان اكتشاف هذه القنبلة المدفونة في أعماق التربة عند القيام بأعمال الترميم والتحديث للاستاد الرياضي المعروف وتقليب وتحريك التربة السطحية. وعلى الفور نشرت المدينة إعلاناً تحذيرياً لتنبيه من يهمه الأمر بالابتعاد عن موقع العثور على القنبلة وإخلاء جميع الناس الساكنين بالقرب منها، والذين يبلغ عددهم أكثر من 3500 ألماني، إضافة إلى توقيف الحركة المرورية وكل البرامج والأنشطة حتى إتمام عملية إبطال مفعول القنبلة، كما أُلغيت المباريات التي كان من المفروض إقامتها في ملعب كرة القدم. كما صرح المسؤولون بأن هذه القنبلة تزن قرابة 500 كيلوجرام، وهي قنبلة أمريكية ألقيت من الجو.
فوجود مثل هذه القنابل والذخائر في البر والبحر التي يتم إيجادها بالصدفة في كثير من الدول الأوروبية والدول التي شاركت في الحربين الأولى والثانية، أصبحت حتى يومنا هذا كثيرة ومتنوعة في حجمها وقدرتها التدميرية، وتشكل خطورة على أمن وسلامة الناس والمرافق التنموية وتهدد بانفجارها في أي وقت، وفي أي مكان، وفي أي زمان، ولا يمكن التخلص منها حتى بعد مرور عقود طويلة من الزمن، ولا يمكن لأحد أن يتكهن بمواقع جثومها في المناطق البرية وفي أعماق البحار والأنهار، فأعدادها تزيد على عشرات الآلاف من القنابل النشطة والتي لم تنفجر بعد، وهي منتشرة في كل هذه الدول التي دخلت الحرب العالمية الأولى والثانية.
واليوم نشهد جميعاً بالصوت والصورة، وبالنقل المباشر الفوري من وسائل الإعلام حرب إبادة جماعية للشعب الفلسطيني عامة، وبخاصة في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. وهذه الحرب الشاملة غطت البشر، والشجر، والحجر، ودمرت كل ما هو على سطح الأرض، حتى أن التقديرات المبنية على صور الأقمار الصناعية أكدت أن نحو 75% من المرافق السكنية والإدارية قد تم هدمها كلياً أو جزئياً، أو ما يقدر بأكثر من 98 ألف وحدة سكنية، بين عمارة، وشقة، وفيلا.
فقد ألقى الكيان الصهيوني، ولأكثر من ستة أشهر عشرات الآلاف من القنابل، والذخائر، والصواريخ بمختلف أحجامها وقوتها وشدتها، حتى أنها في مجموعها تساوي قوتها حتى الآن أكثر من ثلاثة قنابل دمار شامل نووية من النوع الذي ألقته الحكومة الأمريكية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1945، والتي تُقدر بنحو 15 ألف طن من المتفجرات.
وحسب تصريحات مسؤول الأمم المتحدة لإزالة الألغام في 26 أبريل 2024، فإن هذه التفجيرات العشوائية غير المسبوقة في التاريخ على منطقة مساحتها صغيرة جداً، قد خلَّفت عدة أنواع من المخلفات الغازية، والصلبة الخطرة والمتفجرة، وغير الخطرة. فأما المخلفات الغازية فتتمثل في احتراق المتفجرات التي تنبعث عنها المخلفات العضوية وغير العضوية السامة والخطرة والتي بعضها يسبب السرطان، إضافة إلى الدخان الأسود، والأتربة، والغبار، والجسيمات الدقيقة التي تنجم عنها وعن المرافق التي تم هدمها وتسويتها بالأرض. وهذه الجسيمات الدقيقة، كلما قل حجمها وقطرها، زادت تأثيراتها السامة والخطرة على صحة الإنسان لأن لها القدرة على اختراق الجهاز التنفسي العلوي وغزو أعماق الجهاز التنفسي، وبالتحديد الحويصلات الهوائية في الرئتين.
وأما المخلفات الصلبة غير الخطرة فتتمثل في مخلفات الهدم للمرافق السكنية وغير السكنية، حيث قدَّرت الأمم المتحدة كمياتها حتى اليوم بأكثر من 37 مليون طن، وتحتاج إلى 14 سنة للتخلص منها كلياً.
ومن جانب آخر فإن هذه الحرب، كباقي الحروب، ولدت مخلفات صلبة خطرة وقابلة للانفجار والاشتعال في أية لحظة. وهذه المخلفات هي القنابل والذخائر والصواريخ التي لم تنفجر، والتي قد تكون في أي مكان في غزة. فمنها ما هو عالق في ركام المنازل والمباني والعمارات، ومنها ما هو مختبئ بين الأنقاض والركام. وهذه المخلفات الصلبة الخطرة ستنفجر عاجلاً أم آجلاً فتُسقط ضحايا بشرية دون سابق إنذار، وتحتاج للتعامل معها إلى خبراء ومتخصصين في كيفية إزالة الألغام والتعامل الآمن والسليم معها. وهناك حسب تصريحات المسؤول الأممي نحو 300 كيلوجرام من مخلفات الهدم والتدمير لكل متر مربع، وهي تمثل تهديداً مباشر لسلامة سكان غزة، وبخاصة إذا كان بداخلها، ومدفون تحتها المخلفات العسكرية والقنابل التي لم تنفجر.
وفي المقابل هناك المخلفات الزراعية الناجمة عن هذه الحرب وعمليات الإبادة الجماعية، فهذا العدو الهمجي البربري لم يدع شيئاً إلا وقضى عليه ودمره كلياً، بشراً، وشجراً، وحجراً. فهناك الكثير من الحقول والبساتين الخضراء، والأراضي الزراعية، والبيوت الزجاجية، والأشجار المعمرة القديمة المثمرة، قد تم جرفها وإزالتها عن طريق المتفجرات الحارقة والصواريخ المدمرة، أو عن طريق الجرافات والآليات الثقيلة التي دهستها فدمرت التربة الزراعية، فولدت مخلفات كبيرة يصعب تقديرها في الوقت الراهن.
وكل هذه المخلفات التي تحدثتُ عنها حالياً هي مجرد تقديرات أولية، وإحصائيات مبدئية، فالحرب مازالت مشتعلة ومستمرة، وحتماً ستكون المخلفات بجميع أنواعها الغازية، والصلبة الخطرة والمتفجرة، وغير الخطرة أعلى بكثير من التقديرات الآن، والتأثيرات ستكون أشد وطأة وتنكيلاً بالسكان بعد أن تهدأ الأحوال وينكشف المستور والمخفي.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك