على الرغم من أن دول الخليج العربي لم ولن تكون طرفا في الصراعات الإقليمية والتي ظلت سمة لصيقة بالأمن الإقليمي الخليجي عبر عقود، فإن تلك الصراعات كان لها انعكاس واضح على أمن المنطقة، لأسباب كثيرة ليس أقلها انتهاء الحدود الفاصلة بين مستويات الأمن الوطني والإقليمي والعالمي، إلى الحد الذي جعل دول المنطقة والعالم بأسره جزءا من أزمة واحدة وتقدم تهديدات الأمن البحري نموذجاً واضحاً لذلك، فالمسألة ليست في ملكية دولة ما لسفينة ولكن تلك السفينة ربما تستأجرها شركة من دولة ثانية وتمر من ممر بحري يقع جزء منه في المياه الإقليمية لدولة ثالثة، وتتولى شركة من دولة رابعة مسألة التأمين على ذلك النقل والقائمة تطول.. بما يعنيه ذلك من أن الاعتداء على سفينة تجارية يعني أن تدويل مسألة الأمن أصبح حقيقة ماثلة.
وتأسيساً على ما سبق فإن المشهد الإقليمي والذي يشهد تحديات أمنية متزامنة وغير مسبوقة، الأمر الذي حدا بدول الخليج العربي لإعلان رؤية خليجية للأمن الإقليمي بمقر الأمانة العامة لمجلس التعاون في 28 مارس 2024 تمثلت في مبادئ عامة أشرت إليها في مقال سابق، ينذر بمخاطر عديدة من شأنها تغيير مضامين وأطراف وتأثير الصراعات الإقليمية الراهنة، فقبيل اندلاع حرب غزة كان الحديث يدور عن الصراعات في دول محددة ومن شأنها التأثير في الأمن الإقليمي إلا أن الأمر الآن يبدو مختلفاً، فعلى صعيد مضامين الصراعات، فمع استبعاد اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بين أطراف منظومة الأمن الإقليمي ليس لقدرة تلك الأطراف على ممارسة ضبط النفس أو ما لديها من قوة متكافئة نسبياً ولكن بسبب الدروس المستفادة من حربي أوكرانيا وغزة، فالمسألة ليست في تكافؤ القوة العسكرية التقليدية وإنما في أساليب وتكتيكات تستخدم فيها التكنولوجيا على سبيل المثال ومنها الطائرات من دون طيار «الدرونز» التي تعرف أهدافها بدقة بالغة سواء تجاه المنشآت أو الأشخاص وكانت سبباً أساسياً في إطالة أمد تلك الصراعات، بل إن الحديث يدور عن تغير معادلة الردع من الشك إلى اليقين، ففي الماضي كانت مفردات مثل توازن القوى والردع بالشك هي من تحكم مسار تلك الصراعات ولكن الآن كل طرف يعلن ما لديه من مؤشرات للقوة سواء من خلال دعم الأذرع الإقليمية أو استهداف مصالح مباشرة للطرف الآخر دون التورط في مواجهة عسكرية مباشرة، بما يعنيه أن أطراف الصراعات هي الدول وكذلك الجماعات دون الدول والتي امتد تأثيرها خارج مناطق الصراعات إلى منظومة الأمن الإقليمي برمتها، وأما عن تأثير الصراعات فهي تهديد بالغ لتوازن القوى التقليدي من ناحية وتحقيق الدول والجماعات دون الدول مكاسب كبيرة بتكلفة زهيدة، بل والأهم فرض خيارات صعبة على الدول التي تتشابك مصالحها على نحو غير مسبوق في الاصطفاف في هذا الاتجاه أو ذاك، فضلاً عن حتمية إعادة النظر في متطلبات وآليات الحفاظ على الأمن القومي للدول والذي أضحى مرتبطاً بمكونات نوعية ومدى قدرة الدولة على حماية مصالحها في الداخل والخارج في ظل ما أتاحته التكنولوجيا للدول أو الجماعات دون الدول من فرص لتوظيفها على نحو سيء.
وعلى الرغم من أن ذلك المشهد الإقليمي لا يعكس نذر مواجهات عسكرية مباشرة ولكن تأثيراته في دول الخليج العربي تتمثل في خمسة أمور أولها: زيادة وتيرة تهديد الممرات المائية الدولية وهي التي تمثل شرايين تجارة دول الخليج مع دول العالم بما تفرضه تلك التهديدات من تداعيات أمنية واقتصادية وجيوسياسية، وثانيها: دخول الجماعات دون الدول على خط التفاعل بما لديها من قدرات تكنولوجية بما يعنيه ذلك من أن الأطر التقليدية التي تأسست لمواجهة مخاطر تلك الجماعات ربما لم تعد كافية لردعها من تهديد الأمن الإقليمي، ثالثها: إثارة الجدل حول دور تنظيمات الأمن الإقليمي في مواجهة تلك التهديدات وسبل ذلك حيث تجاوز الحديث عن فكرة تكامل الجهود العسكرية التقليدية إلى القدرات الأمنية النوعية بل القدرة على إدارة أزمات بحرية على سبيل المثال، فالمسألة لا ترتبط بممارسة الردع فحسب بل مدى الاستعداد لمنع وقوع كارثة بحرية مثلاً يمكن أن يكون لها تأثير في البيئة البحرية لعقود قادمة أو إدارة تداعيات هجوم سيبراني واسع النطاق، وكذلك حماية المنشآت الحيوية من مخاطر التكنولوجيا الحديثة، ورابعها: دور الشراكات الإقليمية والدولية في مواجهة تلك التهديدات النوعية، صحيح أن تلك الشراكات ليست بالأمر بالجديد بل إنها كانت الإطار الذي ضم الجهود الإقليمية مع نظيرتها الدولية لمواجهة التحديات الأمنية التي واجهت المنطقة، ولكن هل هناك حاجة إلى تجديد مضامين تلك الشراكات، ومن ذلك على سبيل المثال أن يونيو 2024 سوف يشهد مرور عشرين عاماً على إطلاق حلف الناتو مبادرة إسطنبول للتعاون وانضمت إليها أربع دول خليجية وقدمت ما يسمى «القيمة المضافة للأمن» ولكن برغم ذلك الناتو ليس طرفاً في جهود مواجهة تهديدات الأمن البحري في باب المندب والبحر الأحمر، وخامسها: الأولويات الأمنية، صحيح أن الأمن القومي أصبح له مكونات وجوانب عديدة بشكل غير مسبوق لكن مواجهة تلك القائمة تحتاج إلى موارد وإمكانات، فما الأولويات التي يجب التركيز عليها، وهل تتماثل أولويات الدول حتى لو كانت تجمعها مع دول أخرى أطر تعاون جماعية؟ وربما يبدو للبعض أن تلك التداعيات منفصلة ولكنها متصلة على نحو وثيق ومجملها أن هناك معادلة جديدة للأمن الإقليمي آخذة في التشكل وإن تعددت مضامينها وأطرافها وتأثيراتها ولكن تجمعها قائمة طويلة من التساؤلات منها ما مستجدات الأمن الإقليمي وكيف أثرت في هيكل الأمن الإقليمي ذاته سواء القائم أو الذي كانت تطمح إليه دول المنطقة؟ من يتحكم في تلك الصراعات؟ بمعنى آخر هل لا يزال الحديث يدور عن الصراع المنضبط الذي يمكن السيطرة عليه دون توسع رقعة ذلك الصراع؟ ما الإمكانيات والموارد المطلوبة للحد من تأثير تلك الصراعات على الأمن الوطني والأمن الإقليمي لدول الخليج العربي؟
إن إعلان دول الخليج العربي رؤيتها للأمن الإقليمي في مارس 2024 خطوة مهمة للإجابة عن بعض من تلك التساؤلات ولكن هل من خطوات عملية محددة يتعين القيام بها سواء ضمن إطار مجلس التعاون أو عبر الشراكات الإقليمية والدولية في خضم تعقيدات الأمن الإقليمي الراهنة؟ تساؤل مهم وله وجاهته بالنظر إلى أهمية دور الخليج في الحفاظ على توازن القوى الإقليمي وسوف يستهدف المقال القادم بإذن الله الإجابة عن ذلك التساؤل.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك